المبحث الثاني
الانحرافات المتعلقة بالرجاء
إن الرجاء المتعلق بالأمور الباطنة وأسبابِها الخفية، عبادةٌ قلبية، لا يجوز صرفها لغير الله ، وهو أحد أركان العبادة التي لا تتم إلا به كما تقدم في بيان العبادة وأركانها.
لكن انحرف بعض الناس في هذا المجال عن الصراط المستقيم، فيرجون بعض المخلوقين في قضاء حاجاتهم الدنيوية، بل وفي نيل السعادة الأخروية؛ فيستغيثون بهم في حوائجهم الدنيوية والأخروية نتيجة لما يَرجُونه منهم.
ومن الانحرافات المتعلقة بالرجاء:
الانحراف الأول:التمني والغرور دون العمل الصالح.
إن بعض الناس يتمنون على الله الأماني، ولا يعملون لطلب ما يَرجُونه، ثم يستدلون لتمنياتهم بأدلة الرجاء، ويقولون: إن القلب صافٍ، والأعمال بالنيات( )[1]، ونرجو رحمة الله، ورحمته غلبت غضبه( )[2].
المبحث الثالث
موقف الإسلام من الانحرافات المتعلقة بالرجاء
إن الرجاء من أفضل العبادات القلبية، بل هو أحد أركانها الثلاثة( )[3]، فلا يجوز صرف الرجاء المتضمن للذل والخضوع لغير الله ، وقد دلت النصوص الشرعية على أنه لابد للرجاء أن يرافقه العمل الصالح.
لكن قد انحرف بعض الناس في هذا المجال، فيتمَنَّوْن الثواب والأجر من دون عملٍ موافقٍ للشرع كما تقدم في الانحراف الأول، وعملهم هذا مخالف للشرع والعرف:
أما الشرع: فقد قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ? ( )[4].أي ((من كان يطمع في أن يرى الله عيانا يوم القيامة؛ فليعمل عملا صالحاً. يأتي بالسبب الذي يؤهله لحصول هذا المطلوب، وهو الثواب بدخول الجنة، والنجاة من النار، والنظر إلى وجه الله، لأن هذا متلازم، لأن من دخل الجنة يرى الله فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ( )[5] فهذا يدل على أن الرجاء وحده لا يكفي لا بد من العمل)) ( )[6].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ ? وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( )[7]. فالذين يؤمنون بالله حق الإيمان، ويهاجرون فرارا بدينهم، ويجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمته، أولئك هم الصادقون في دعوى رجائهم رحمة الله؛ لأنهم جاءوا بعمل صالح وبسببه ينالون ما يرجونه.
قال الزركشي( )[8] -رحمه الله-: إن قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( )[9] أبلغ في التهديد مما لو قال: ذو عقوبة شديدة؛ لأنه إنما قال ذلك نفياً للاغترار بسبب رحمة الله في الاجتراء على المعصية فالمعنى لا تغتروا بسعة رحمة الله؛ فإنه مع ذلك لا يُرَدُّ عذابه( )[10] أي عن القوم المجرمين.
وقال النبي ((من خاف أدلج( )[11]، ومن أدلج بلغ المنـزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)) ( )[12].
وكل راجٍ خائف[الفوات]، والسائر على الطريق إذا خاف، أسرع السير مخافة الفوات( )[13].
أما العرف: فـ((لو أن رجلا له أرض، ويؤمل أن يعود من مَغَلِّها ما ينفعه، فأهملها ولم يَحْرُثْها ولم يَبذُرْها، ورجا أنه يأتي من مَغَلِّهَا مثل ما يأتي من حَرَثَ وزَرَعَ وتعاهد الأرضَ؛ لعدّه الناس من أسفه السفهاء.
وكذا لو رجا وحسن ظنه وقوي رجاؤه أن يجيئه ولدٌ من غير جماع! أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب للعلم وحرص تام عليه وأمثال ذلك.
فكذلك من حسن ظنه، وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم من غير طاعة، ولا تقرب إلى الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه))( )[14].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهامش:
( )[1] يشيرون إلى حديث: ((إنما الأعمال بالنيات...)) في صحيح البخاري مع الفتح كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي...1/12(ح1), وصحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب الجهاد باب قوله : أنما الأعمال بالنية13/55(ح4904).
( )[2] لعلهم يشيرون إلى حديث في صحيح مسلم: ((لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي)).ينظر: صحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب التوبة باب في سعة رحمة الله، وأنها سبقت غضبه17/71(ح6905).
( )[3] وقد تقدم التفصيل في ذلك عند الكلام عن العبادة وأركانها راجع التمهيد ص: 78.
( )[4] سورة الكهف(110).
( )[5] سورة الكهف(110).
( )[6] شرح الأصول الثلاثة للفوزان ص: 136-137.
( )[7] سورة البقرة(218).
( )[8] الزركشي: هو بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، الشافعي، ولد سنة645هـ، وألّف تصانيف كثيرة في عدة فنون، وهو عالم في الحديث، والتفسير وجميع العلوم، ومن مصنفاته شرح البخاري، والتنقيح على البخاري، والبرهان، وكانت وفاته في سنة 794هـ.ينظر: طبقات المفسرين للأدنَوي ص: 302برقم(383).الأعلام للزركلي6/60.
( )[9] سورة الأنعام(147).
( )[11] الإدلاج: السير من أول الليل، يقال: أَدْلَجَ -بالتخفيف- القومُ إذا ساروا من أول الليل والاسم الدَّلَجْ -بالتحريك-. لسان العرب لابن منظور3/392.والمراد: التشمير في أول الأمر، فإن من سار أول الليل كان جديرا ببلوغ المنـزل.ينظر: جامع الأصول لابن الأثير4/9.
( )[12] سنن الترمذي كتاب صفة القيامة باب منه ص: 552(ح2450).قال محمد أحمد لوح في الهامش على كتابه تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي2/197: ((إن له شاهدا عن أُبيّ بن كعب عند أبي نعيم ((الحلية)) (8/377)، والحاكم من وجه آخر ليس فيه واحد منهما، لكن فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو صدوق. ((التقريب)) (رقم3592)، فالحديث لا ينـزل عن درجة الحسن))اهـ. وقال الألباني: فالحديث بهذا الشاهد صحيح. ينظر: السلسلة الصحيحة له 2/637برقم954,5/442برقم2335.فالحديث مقبول يصح الاستدلال به.
( )[13] الجواب الكافي لابن القيم ص: 39.
( ) [14]شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي2/449، والجواب الكافي ص:38-39.
انظر: موقف إلاسلام من الانحرافات المتعلقة بتوحيد العبادة. تأليف: عبد الر زاق بن محمد بشر(ج1ص271-280)