الانحراف الثاني: تقديس الأمكنة التي لم يرد تقديسها في الشرع، أو الغلو فيما ورد منها.
ويدخل تحت هذا عدة من الانحرافات منها:
الأول: الغلو في تعظيم القبور، وخاصة إذا نسبت إلى أولياء.
حرمة المقبور باقية بعد الدفن؛ فلا يوطأ قبره، ولا يجلس عليه، ولا يهان، ولكن بعض الناس يغلون في تعظيم القبور عامة، وقبور الأولياء والعلماء خاصة، وذلك بوضع الزهور عليها، وبناء القباب عليها، وكتابة اللوحات عليها، وإرخاء الستائر عليها، وإسراج السراج عليها، وإيقاد الشموع ونحو ذلك مع أن هذه الأمور كلها ممنوعة شرعا.
وقال أحدهم في تفسير قول الله تعالى: • ( )[1] ((هذه الآية تدل على جواز بناء المسجد، ليُصلى فيه عند مقابر أولياء الله قصداً للتبرك بهم))( )[2].
وقال آخر في زيارة قبور الأولياء: (فالصواب زيارتهم على وجه التبرك؛ لأنها مراقد الأولياء ومظان استجابة الدعاء والبركة)( )[3].
وقال آخر: ((اتخاذ مسجدٍ بجوار نبي أو صالح، والصلاة عند قبره، لا للتعظيم والتوجه نحوه، بل لحصول المدد منه حتى يكمل عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح الطاهرة، فلا حرج في ذلك، لما ورد أن قبر إسماعيل في الحجر تحت الميزاب، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيا، ولم ينه أحد عن الصلاة فيه))( )[4].
وقال أيضا: ((أما من اتخذ مسجدا في جوار صالح، أو صلى في مقبرة وقصد الاستظهار بروحه، أو وصول أثرٍ ما من أثر عبادته إليه، لا للتعظيم له( )[5]، والتوجه نحوه؛ فلا حرج عليه. ألا ترى أن مرقد إسماعيل في المسجد الحرام عند الحطيم، ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي لصلاته))( )[6].
لقد أخطا هذا القائل من وجهين: أولا: زعم أن مرقد إسماعيل في الحطيم، ومعلوم أن الحطيم حُطِّم أي أخرج من الكعبة في حياة الرسول قبل مبعثه بخمس سنين( )[7]، وأما في زمن إسماعيل وأبيه – صلّى الله عليهما وسلم- فكان داخل الجدران، ولا يدفن الأموات في داخل بيت الله وسيأتي المزيد من الردود في المبحث الثالث إن شاء الله تعالى.
ثانيا: زعم أن فضل المسجد الحرام إنما هو من أجل أن إسماعيل مدفون فيه، وسيأتي الرد التفصيلي عليه في المبحث الثالث إن شاء الله.
وقال آخر: ((بناء القباب على قبور الأولياء والعلماء والصلحاء جائز...ووضع الستور والعمائم، وإيقاد الشموع على قبور الأولياء والعلماء جائز إذا كان بذلك يقصد تعظيم أهل القبور في أعين العامة اهـ))( )[8].
وقال آخر: ((هدم القباب إهانة للمشايخ والأولياء، وهذا كفر))( )[9].
وشنع البعض على من طبق أمر النبي ، وسنة الخلفاء الراشدين في تسوية القبور بالأرض، كما شنعوا على من يهدم القباب سدا للذريعة، وخوفا من وقوع العوام في الشرك، قال أحدهم: ((أما قول بعض المغرورين كالوهابية، بأننا نخاف على العوام، إذا اعتقدوا وليا من الأولياء، وعظموا قبره والتمسوا البركة والمعونة منه، أن يدركهم اعتقاد أن الأولياء يؤَثِّرون من دون الله تعالى، فننهاهم عن ذلك، ونهدم القبور، ونزيل الستور، ونجعل الإهانة للأولياء؛ فعلم أن هذا الفعل من فرعون، وهو كفر، قال فرعون: ( )[10]اهـ( )[11].
موقف الإسلام من الانحراف الثاني: وهو تقديس بعض الأمكنة التي لم يرد تقديسها.
تقديس الأمكنة عند الناس ينقسم إلى ثلاثة أقسام مثل تقديس الأزمنة( )[12]:
أحدها: ما لا احترام له ولا خصوصية، ولا قداسة في الإسلام، كتقديس أرض كربلاء، لأنها مثل باقي الأراضي، ولم يرد في تقديسها شيء صحيح.
ثانيها: ما له خصوصية وقداسة وحرمة، لكن لا يقتضي قصده بالعبادة من مكان بعيد، كأرض الحرم المدني من غير المسجد النبوي.
ثالثها: ما له نوع من الاحترام، وتشرع زيارته، لكن لا يتخذ عيدا، كالقبور تشرع زيارتها، وهي سنة، ولكن لا تُتخذ عيدا.
وقد بين رسول الله مشروعية زيارة القبور، ونهى عن امتهان المقابر بجعلها مواطن قضاء الحاجة، كما نهى عن وطئها، وعن الجلوس عليها، وعن المشي بين المقابر بالنعلين السِبْتِيَتَيْنِ( ) [13]ونحو ذلك.
ومن الآداب التي بيّنها صلى الله عليه وعلى آله وسلّم:
1- قال رسول الله : ((لأن أمشي على جمرة، أو سيف، أو أَخْصِفَ( )[14] نَعْلي برجلي، أحب إليَّ من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أَوَسَط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق)) ( )[15].
2- قال : ((لأن يجلس أحدكم على جمرة؛ فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر))( )[16].
3- قال : ((لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه حتى تخلص إليه خير من أن يطأ على قبر رجل مسلم))( )[17].
ولقد أفرد بعض العلماء مؤلفات مستقلة في زيارة القبور، وخصص الآخرون أبوابا من مؤلفاتهم في آداب زيارتها، وما يجوز عندها وما لا يجوز فليراجع إليها( )[18]، لكنني أذكر هنا عدة أحاديث تدل على عدم جواز بعض الأمور التي تتعلق بتقديس القبور منها:
1- عن ثُمامة بن شُفِيّ -رحمه الله– ( )[19]قال: كنا مع فضالة بن عبيد ( )[20]بأرض الروم برُودِس( )[21]فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي، ثم قال سمعت رسول الله يأمر بتسويتها( )[22].
2- عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب t: ((ألا أبْعثُك على ما بعثني عليه رسول الله ، أن لا تَدَعَ صورة إلا طمسْتَهَا، ولا قبراً مشرِفاً إلى سوِّيْـتَهُ)) ( )[23].
3- وثبت أن عثمان بن عفان t خرج فأمر بتسوية القبور، فسويت، إلا قبر أم عمرو ابنة عثمان، فقال: ما هذا القبر؟ فقالوا:قبر أم عمرو فأمر به فسُوِّيَ)) ( )[24].
4- عن جابر قال: نهى رسول الله أن يُجصّص القبرُ، وأن يُقعَد عليه، وأن يُبْنى عليه( )[25].
5- قال : ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) ( )[26].
6- نهى رسول الله ((أن يُبْنى على القبر، أو يزاد عليه، أو يُجصّصَ -وفي رواية- أو يكتب عليه)) ( )[27].
فهذه الأدلة وغيرها تدل على ما هو الوارد في شأن المقابر، وعلينا اتباع النبي لا الابتداع حسب الهوى.
ولمّا ثبت عن النبي النهي عن الكتابة على المقابر، فلا يجوز لأحد أن يكتب عليها لا للمعرفة ولا لغيرها، لأن كل واحد يؤخذ من قوله ويرد إلا محمداً رسولَ الله فإن في ترك حكمه ومخالفة أمره تعريضا للنفس إلى الخطر، وقد قال الله تعالى محذرا عن مخالفته: ( )[28].
ولذا أفتى كثير من العلماء بحرمة وضع الستور والزهور على القبور فقالوا:
1- ((تكره الستور على القبور)) ( )[29].
2- (وضع الستور على القبور لا يجوز)( )[30].
3- (وضع الزهور وغيرها على القبور ليس بصحيح)( )[31].
4- (افتراش الأردية ووضع الستور على القبور لا يجوز وهو إثم)( )[32].
5- قال محمد يوسف اللديانوي -رحمه الله-: (فتعالوا وانظروا ما يفعله العوام الجُهال على القبور كافتراش الغطاء عليها، وإسراج السرج عليها، والسجود لها، والطواف حولها، وتقبيلها، ومسح الجبين والعيون بها، والوقوف عندها كما يقف المصلي حالة القيام في الصلاة [بين يدي ربه]من وضع اليد اليمنى على اليسرى، والركوع عندها، والنذر لها، وغير ذلك، وإذا كنت قد ذهبت إلى قبور بعض الأولياء والصالحين لرأيت هذا بعينك، والحال أن كتبنا (أهل السنة وأئمة الأحناف) سطروا أن هذه الأمور كلها غير جائزة)( )[33].
6- وعدّ ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- بعض هذه الأمور من كبائر الذنوب: ((الكبيرة الثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثانا، والطواف عليها، واستلامها، والصلاة إليها)) ( )[34].
ففتاوى هؤلاء العلماء وأقوالهم تشرح الأحاديث السابقة، وتوضح موقف الإسلام من هذه الانحرافات المتعلقة بتقديس القبور وأهلها، فعلى المسلم أن يطيع الله ورسوله ويطيع العلماء الذين يوافق أقوالهم، أقوال النبي وأفعاله.
وأما ما قاله المخالف في تفسير قول الله تعالى: • ( )[35] بأن هذه الآية تدل على جواز بناء المسجد يصلى فيه عند مقابر أولياء الله قصداً للتبرك بهم))-كما تقدم نص كلامه في بيان الانحرافات-.
فيقال: إن الآية الكريمة لا تدل على جواز بناء المساجد يصلى فيه عند المقابر -كما زعم- بل غاية ما فيها حكاية عما حصل عن هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم وهم الملوك وولاة الأمر والسلطة، لأن هؤلاء يكون لهم الغلبة على إنفاذ ما يريدونه سواء وافق الشرع أم لا.
قال ابن عباس في تفسير قوله: يعني عدوهم( )[36].
وقال ابن كثير -رحمه الله-: ((حكى ابن جرير( ) [37]في القائلين ذلك قولين:
أحدهما: إنهم المسلمون منهم.
والثاني: أهل الشرك منهم، فالله أعلم
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي قال: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا
قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد))( )[38] يحذر ما فعلوا)) ( )[39].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تفسير قول الله تعالى: • ( )[40] ((كان الضالون، بل والمغضوب عليهم، يبنون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وقد نهى رسول الله أمته عن ذلك في غير موطن( )[41]حتى في وقت مفارقته الدنيا -بأبي هو وأمي-)) ( )[42].
فعلم أن غاية ما في الآية هو حكاية الواقعة، وخبرٌ عما حدث على أصحاب الكهف، وليس فيها تأييد لِما فعلوا، لأن البناء على القبور منهي عنه شرعا، كما يدل عليه قول النبي الذي تقدم نقله أثناء كلام ابن كثير -رحمه الله- وكذا قوله لأم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- لماّ ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وذكرت له ما رأت فيها من الصور، قال رسول الله : ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح، بَنَوْا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله))( )[43].
وأما قول المخالف: الصواب أن زيارة قبور الأنبياء والأولياء على وجه التبرك؛ لأنها مراقد الأولياء ومظان استجابة الدعاء والبركة.
وقوله: لا حرج في اتخاذ مسجدٍ بجوار نبي أو صالح، والصلاة عند قبره، لحصول المدد منه حتى يكمل عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح الطاهرة، لما ورد أن قبر إسماعيل في الحجر تحت الميزاب، أن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيا.
وقول غيره: ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي لصلاته.
وقول الآخر: هدم القباب إهانة للمشايخ والأولياء، وهذا كفر...كما تقدم كلامهم في بيان الانحرافات ففيها عدة مخالفات:
الأولى: زيارة القبور على وجه التبرك، فهذه من المخالفات البدعية التي قد تسبب الشرك، لأن التبرُّكَ تفعُّلٌ وهو مصدر من تبرَّكَ، يتبرَّكُ، تبُّركاً، بمعنى طلب البركة، وتبرَّك به أي طلب البركة بواسطته( )[44].
وأصل البركة: الثبوت واللزوم( )[45]، وتطلق على النماء والزيادة( )[46].
وزيارة القبور عمل مسنون، يثاب بها الزائر إذا كانت موافقة لهدي النبي ، بأن يتعظ، ويتذكَّر الآخرة، ويدعو بالدعاء المأثور، لكن قصد القبور على وجه التبرك بها، عمل بدعي وليس في القرآن ولا السنة ما يدل على مشروعية التبرك بالقبور، ولم يثبت عن السلف الصالح أنهم كانوا يزورون المقابر بقصد التبرك.
الثانية: اعتقاد أن مراقد الأولياء مظان استجابة الدعاء، والبركة.
إن مظان استجابة الدعاء والبركة الزمانية والمكانية معروفة في الشريعة الإسلامية، كوقت السحر، وشهر رمضان المبارك، ووقت إفطار الصائم ونحوها من الأزمنة، ومثل المسجد الحرام، وميدان عرفة يوم عرفة، والمشاعر المقدسة في أيام الحج ونحوها مما ذكر في القرآن والسنة.
ولم يثبت في القرآن والسنة أن مراقد الأولياء وقبورهم من مظان استجابة الدعاء والبركة، وتحديد الأمكنة والأزمنة للعبادات تشريع، ولم يجعل الله تعالى بيان ذلك إلا على لسان نبيه ، قال الله تعالى: • ( )[47].
الثالثة: اتخاذ مسجدٍ بجوار قبر نبي أو رجل صالح، والصلاة عنده، لحصول المدد منه حتى يكمل عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح الطاهرة، عمل مخالف للنصوص الصريحة.
ولو كان اتخاذ المسجد بجوار قبر نبي أو رجل صالح والصلاة عنده جائزا، لما ورد الوعيد الشديد في ذلك، قال النبي : ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))( )[48].
وقال صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قبل أن يموت بخمس: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)) ( )[49].
وقال : ((لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها))( )[50]، ونحو ذلك من الأدلة وقد تقدم بعضها في فصل الركوع والسجود.
الرابعة: اعتقاد المخالف في أداء الصلاة بجوار قبر نبي أو رجل صالح لحصول المدد والبركة وقت أداء الصلاة بجوار القبر إلى أن يكمل صلاته، فهذا هو السبب الذي لأجله ورد النهي عن الصلاة في المقابر، لأن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه، أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر.ولهذا تجد أهل الشرك كثيرا ما يتضرعون عند القبور، ويخشعون ويخضعون بقلوبهم، ويعبدونهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السَّحَر، ومنهم من يسجد لها! وأكثرهم يرجون -بركة الصلاة والدعاء عندها- ما لا يرجونه في المساجد!!.
فلأجل هذه المفسدة: حَسَمَ النبي مادَّتها، ونهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته.
وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة: فهذا عين المحادّة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دينٍ لم يأذن به الله تعالى، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله أن الصلاة عند القبر -أي قبر كان- لا فضل فيها لذلك، ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلا، بل مزية شر( )[51].
الخامسة: اعتقاد أن قبر إسماعيل في الحجر تحت الميزاب، وأن بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيا, ليس في ذلك دليل مرفوع صحيح.
قال الألباني -رحمه الله-: ((وأما ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل وغيره في الحجر من المسجد الحرام، وهو أفضل مسجد يتحرى فيه.
فالجواب: لا شك أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة( )[52]، ولكن هذه الفضيلة أصلية فيه منذ رفع قواعده إبراهيم مع ابنه إسماعيل -عليهما السلام- ولم تطرأ هذه الفضيلة عليه بدفن إسماعيل فيه -لو صح أنه دفن فيه- ومن زعم خلاف ذلك فقد ضل ضلالا بعيدا، وجاء بما لم يقله أحد من السلف الصالح ، ولا جاء به حديث تقوم الحجة به.
فإن قيل: لا شك فيما ذكرت، ودَفْنُ إسماعيل فيه لا يخالف ذلك، ولكن ألا يدل هذا -على الأقل- على عدم كراهية الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟
فالجواب: كلا ثم كلا وهاك البيان من وجوه:
الأول: أنه لم يثبت في حديث مرفوع أن إسماعيل أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام ولم يرد شيء من ذلك في كتاب من كتب السنة المعتمدة -كالكتب الستة ومسند أحمد ومعاجم الطبراني الثلاثة وغيرها- ضعيفا بل ولا موضوعا عند بعض المحققين( )[53] وغاية ما وري في ذلك من آثار معضلات بأسانيد واهيات، موقوفات أخرجها الأَزْرَقِي( )[54]في" أخبار مكة" (ص: 39 و219و220) فلا يلتفت إليها، وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات. ونحو ذلك ما أورد السيوطي في "الجامع" من رواية الحاكم في "الكنى"عن عائشة مرفوعا بلفظ: ((إن قبر إسماعيل في الحجر))( )[55].
الوجه الثاني: أن القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة ولا بارزة ولذلك لا تقصد من دون الله تعالى فلا ضرر من وجودها في بطن أرض المسجد فلا يصح حينئذ الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض لظهور الفرق بين الصورتين وبهذا أجاب الشيخ على القاري -رحمه الله تعالى-: ...((وفيه أن صورة قبر إسماعيل وغيره مندرسة فلا يصلح الاستدلال))( )[56].وهذا جواب عالم نحرير( )[57]وفقيه خريت( )[58]وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه آنفا وهو أن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة وأن ما في بطن الأرض من القبور فلا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر بل الشريعة تنـزه عن مثل هذا الحكم لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء كما قال تعالى : • ( ) [59]قال الشعبي( )[60]: ((بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم( )[61])) ا.هـ( )[62].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((كان غير واحد من أهل العلم يقول: لا يثبت من قبور الأنبياء إلا قبر نبينا ، وغيره قد يثبت غير هذا أيضا مثل: قبر إبراهيم الخليل ، وقد يكون علم أن القبر في تلك الناحية لكن يقع الشك في عينه)) ( )[63].
نقل الملا علي القاري -رحمه الله- في المرقاة: ((لا يصح تعيين قبر نبي غير نبينا -عليه الصلاة والسلام- نعم سيدنا إبراهيم في تلك القرية( )[64] لا بخصوص تلك البقعة)) ( )[65].
السادسة: زعم المخالف أن هدم القباب المبنية على القبور إهانة للمشايخ والأولياء، وأن هذا كفر.
يقال: إن هدم القباب التي هي على القبور لم يقم به أحد إهانة للمشايخ والأولياء، بل سدا للذريعة، وعملا بهدي سيد الأنبياء والمرسلين، وتطبيقا لسنة الخلفاء الراشدين، وقد أفتى بهدمها الجهابذة من العلماء، كما يتبين مما يأتي:
قال علي بن أبي طالب لأبي الهياج الأسدي -رحمه الله-: ((ألا أبْعثُك على ما بعثني عليه رسول الله ، أن لا تدع صورة إلا طمسْتَهَا، ولا قبراً مشرِفاً إلى سوِّيْـتَهُ))( )[66].
في هذا الحديث نقل علي أمر النبي بتسوية ما رفع من القبور، وهو لا يريد بذلك إهانة المقبور، بل أراد أن لا تفتتن أمته بالغلو في أهل القبور.
وورد أن عثمان بن عفان أمر في خلافته بتسوية القبور، فسويت، إلا قبر أم عمرو ابنة عثمان، فقال: ما هذا القبر؟ فقالوا: قبر أم عمرو( )[67]أمر به فسُوِّيَ( )[68].
هذان الأثران يدلان على أن سنة الخلفاء الراشدين، فيما رفع من القبور بالبناء أو القباب عليه هو الأمر بهدمها، وتسويتها بالأرض، فكيف يُظن بمن يطبق سنة النبي أو سنة الخلفاء الراشدين المهديين أنه فعل عمل فرعون، أو ما هو كفر؟! كما تقدم عن بعض المخالفين.
وقد نقل جماعة من العلماء الفتوى بوجوب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ( )[69].
قال ابن القيم -رحمه الله-: ((إن رسول الله هدم مسجد الضرار، ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فسادا منه كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها: أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض، وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها كلها لأنها أسست على معصية الرسول؛ لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم، فبناءٌ أُسِّسَ على معصيته ومخالفته، بناء محرم وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعا، وقد أمر رسول الله بهدم القبور المشرفة كما تقدم؛ فهدم القباب والبناء والمساجد التي بنيت عليها أولى وأحرى؛ لأنه لعن متخذي المساجد عليها ونهى عن البناء عليه فيجب المبادرة والمساعدة إلى هدم ما لعن رسول الله فاعله ونهى عنه والله عز وجل يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما ويذب عنهما فهو أشد غِيرةً وأسرع تغييراً))( )[70].
نعم نستطيع أن نقول: إن كان يترتب على هدم ما بُنِيَ على القبور من القباب وغيرها، مفسدة كبرى من بقائه؛ فلا يُهدم ترجيحا لأخف المفسدتين على أعظمهما.
الهوامش:
( )[1] سورة الكهف (21).
( ) [2]الوسيلة لهمايون رشيد ص: 70 محيلا إلى تفسير المظهري[5/369].
( )[3] درر الفرائد لغلام حيدر ص: 193.
( ) [4]الوسيلة لهمايون رشيد ص: 71 محيلا إلى اللمعات لعبد الحق الديوبندي.
( )[5] وهذا الذي يفعلونه: من قصد الاستظهار بروحه، أو اعتقاد وصول أثر من أثار عبادته، أو رجاء البركة، ليس إلا تعظيما له، وقد تقدم الرد على هذا الزعم في فصل الركوع والسجود ص: 786-787 وما بعدهما.
( ) الوسيلة لهمايون رشيد ص: 70 محيلا إلى المرقاة لعلي القاري.
( ) يُنظر: البداية والنهاية لابن كثير2/261، وتاريخ الطبري 2/5.
( )[8] الذخائر لأهل البصائر لكفاية الله ص: 16 محيلا إلى روح البيان للحقي وتحرير الشامي.
( ) [9]الذخائر لكفاية الله الداجوي ص: 17.
( ) [10]سورة غافر (26).
( ) [11]الذخائر لكفاية الله الداجوي ص:13 محيلا إلى كشف النور لابن النابلسي، وروح البيان للحقي.
( )[12] يُنظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/155(الأعياد المكانية).
( )[13] السِّبْت: بالكسر جلود البقر المدبوغة بالقرظ، يُتَّخَذُ منها النعالُ، وسميت بذلك؛ لأن شعرها سُبِتَ عنها، أي حُلِق وأزيل. ينظر النهاية لابن الأثير 1/745.
( )[14] الخصف: هو الضم والجمع. النهاية لابن الأثير 1/496، والمعنى أن أجعل بعضها على بعض وأخْرِزُهما.
( ) [15]سنن ابن ماجه كتاب الجنائز باب ما جاء في النهي عن المشي على القبور ص: 275(ح1567) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه له 2/35(ح1283).
( )[16] صحيح مسلم كتاب الجنائز باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه 7/41 (ح2245).
( ) [17]مسند أحمد 2/389، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.ينظر المسند المحقق بإشراف الأرنؤوط 15/19(ح9048)
( )[18] مثل كتاب شرح الصدور للشوكاني، ومجانبة أهل الثبور للراجحي، وغاية الأماني للألوسي وغيرها.
( )[19] ثمامة: هو ثمامة بن شُفِيّ الهمداني أبو علي المصري تابعي ثقة، وروى عن فضالة بن عبيد وعقبة بن عامر وغيرهما ، توفي في خلافة هشام بن عبد الملك. الثقات لابن حبان 2/55(398) وتهذيب التهذيب لابن حجر2/26(906).
( ) [20]فضالة:هو فضالة بن عبيد بن ناقد بن قيس يكنى أبا محمد الأنصاري من بني عمرو بن عوف ، شهد معركة أحد وما بعدها، ولي قضاء دمشق لمعاوية توفي 53هـ. أسد الغابة لابن الأثير4/346(4232)، والإصابة لابن حجر5/283(7007).
( )[21] الرُودِس: بضم الراء وقيل بفتحها وكسر الدال، جزيرة ببلاد الروم، مقابل الإسكندرية على ليلة منها في البحر. يُنظر: شرح النووي على صحيح مسلم7/39، ومعجم البلدان لياقوت الحموي 3/89(5655).
( )[22] صحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب الجنائز باب الأمر بتسوية القبر 7/39 (ح2239).
( )[23] صحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب الجنائز باب الأمر بتسوية القبر7/40(ح2240).
( )[24] تقدم تخريجه في التمهيد: في معالجة أسباب الانحرافات، ص: 178.
( )[25] صحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب الجنائز باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه 7/40(ح 2242).
( )[26] صحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب الجنائز باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه 7/41 (ح2247).
( )[27] سنن النسائي كتاب الجنائز باب الزيادة على القبر ص:323(ح2027)، وقال الألباني صحيح. يُنظر:صحيح سنن النسائي للألباني2/65(ح2026).
( )[28] سورة النور (63).
( )[29] رد المحتار لابن عابدين 2/258.
( ) [30]يُنظر: فتاوى دار العلوم ديوبند لمحمد شفيع 2/182.
( ) [31]يُنظر: ((فتاوى رشيدية)) لرشيد أحمد جنجوهي (بالبشتو) ص:439.
( ) [32]يُنظر: فتاوى دار العلوم ديوبند لعزيز الرحمن 1/ 129، 329.
( )[33] ((اختلاف أمت)) للديانوي بالأردية ص: 62، وبالبشتو ص: 86.
( ) [34]الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي1/148.
( ) [35]سورة الكهف (21).
( )[36] جامع البيان للطبري 9/277(22971).
( ) [37]جامع البيان للطبري 9/277.
( )[38] صحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور5/17 (ح1188)، والحديث في صحيح البخاري دون ذكر((صالحيهم)) يُنظر: صحيح البخاري مع الفتح لابن حجر كتاب الصلاة باب(55)1/689(ح435)،ولكن في صحيح البخاري شاهد لكلمة ((صالحيهم)) من حديث أم المؤمنين عائشة، أن أم المؤمنين أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله : ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح، بَنَوْا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)) كتاب الصلاة باب الصلاة في بيعة1/688(ح434).
( ) [39]تفسير القرآن العظيم لابن كثير9/120.
( ) [40]سورة الكهف (21).
( ) [41]تقدم قريباً مجموعة من الأحاديث التي ورد فيها النهي عن البناء على القبور في ص: 1044.
( )[42] اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1/90.
( ) [43]صحيح البخاري مع الفتح لابن حجر كتاب الصلاة باب الصلاة في بيعة1/688(ح434).
( )[44] يُنظر: التبرك أنواعه وأحكامه لناصر الجديع ص:30، التمهيد لشرح كتاب التوحيد لصالح آل الشيخ ص:123( باب من تبرك بشجر) ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين9/185.
( )[45] يُنظر: المقاييس في اللغة لابن فارس ص:124، والمفردات للراغب ص:119.
( ) [46]يُنظر: المفردات للراغب ص:119، والنهاية لابن الأثير1/ 127، ولسان العرب لابن منظور 1/397، تاج العروس للزبيدي 13/515.
( ) [47]سورة الشورى(21).
( )[48] تقدم تخريجه في فصل الركوع والسجود ص: 774.
( )[49] صحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور 5/17 (ح1188).
( )[50]صحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب الجنائز باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه7/42(ح2248).
( )[51] يُنظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/192، وإغاثة اللهفان لابن القيم 1/349، ومجانبة أهل الثبور...لعبد العزيز الراجحي ص: 32-33.
( ) [52]الحديث: ((صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)) رواه أحمد في مسنده وقال محققو المسند: صحيح على شرط البخاري.يُنظر: المسند المحقق بإشراف الأرنؤوط 23/415 (ح15271).
( )[53] نقل السيوطي في "التدريب" عن ابن الجوزي"[صاحب كتاب الموضوعات] قال: ما أحسن قول القائل: ((إذا رأيت الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع. قال: ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجا من دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة)) تدريب الراوي للسيوطي1/569. وينظر: تحذير الساجد للألباني ص:75 هامش(1).
( ) [54]الأَزْرَقِي: هو أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن وليد بن عقبة بن الأزرق الغسّاني المكي توفي سنة 223هـ.ينظر ترجمته في مقدمة كتبه تاريخ مكة بقلم عبد الملك بن دُهيش ص:9 وما بعدها، وكشف الظنون لحاجي خليفة1/306، وهدية العارفين للبغدادي 2/11.
( ) [55]وهو حديث ضعيف.يُنظر: كشف الخفاء للعجلوني 2/107(1854)، وتذكرة الموضوعات للفتني ص: 220(باب قبور الأنبياء)، وقال الطرابلسي:سنده شديد الضعف.يُنظر: الكشف الإلهي للطرابلسي السندروسي 2/530 (ح630).
( ) [56]مرقاة المفاتيح لملا علي القاري باب المساجد ومواضع الصلاة 2/389(ح712).
( ) [57]النحرير: العالم المتقن. مختار الصحاح للرازي ص: 270.
( )[58] الخِرِّيت: الدليل الحاذق بالدلالة. لسان العرب لابن منظور 3/52.
( ) [59]سورة المرسلات (25-26).
( ) [60]الشعبي:هو عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار، أبو عمرو الهمداني كوفي تابعي جليل القدر ثقة مشهور، ولد في خلافة عمر بن الخطاب وتوفي بعد المائة.ينظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء للذهبي 4/294(113)، ووفيات الأعيان لابن خلكان3/12، وتاريخ بغداد للخطيب12/227.
( )[61] جامع البيان للطبري 14/288 رقم(35953)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 14/223.
( )[62] تحذير الساجد للألباني ص: 74-78.
( )[63]اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/166(فصل أنواع الأعياد المكانية).
( ) [64]يقصد قرية الخليل في فلسطين، يقال:إن فيها قبر الخليل ، لكن بقعته بالتعيين غير معروفة.
( ) [65]الأسرار المرفوعة لعلى القاري ص: 385(تحقيق صحة قبور...) والثمر المستطاب للألباني 1/370.
( )[66] تقدم تخريجه في ص:1044.
( )[67] تقدمت ترجمتها في ص:178.
( ) [68]تقدم تخريجه ص: 178.
( ) [69]يُنظر: الإقناع للحجاوي كتاب الجنائز فصل ويستحب رفع القبر قدر شبر1/368، والزواجر لابن حجر المكي عند ذكر الكبيرة الثامنة والتسعين، وتيسير العزيز الحميد لسليمان آل الشيخ ص:262، وفتح المجيد لعبد الرحمن آل الشيخ ص: 214
( )[70] إغاثة اللهفان لابن القيم 1/386.
انظر: كتاب موقف الإسلام من الانحرافات المتعلقة بتوحيد العبادة. تأليف أبي سعيد عبد الرزاق بن محمد بشر (ج2ص:1014-1017وص 1043-1058