الثالث: تقديس بعض الأيام من شهر رجب.
يقدس بعض الناس ليلة الجمعة الأولى من شهر رجب، وزعموا أن للصلاة فيها أجرا كبيرا، وسموا هذه الصلاة بـ ((صلاة الرغائب( )[1])) ويصلونها بصفة خاصة( )[2]، قال أحدهم: ((واعلم أن أول ليلة من ليالي الجمعة من رجب تسمى ليلة الرغائب، وفيها عمل مأثور عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذو فضل كثير...ومن فضله أن يغفر لمن صلاها ذنوب كثيرة، وأنه إذا كان أول ليلة نـزوله إلى قبره، بَعَثَ الله إليه ثواب هذه الصلاة في أحسن صورة بوجه طَلِق، ولسان ذَلِق( )[3]، فيقول: يا حبيبي أبشرْ فقد نجوت من كلِّ شدة، فيقول: من أنت؟ فما رأيت أحسن وجها منك، ولا سمعت كلاما أحلى من كلامك، ولا شممت رائحة أطيب من رائحتك؟ فيقول: يا حبيبي أنا ثواب تلك الصلاة التي صليتها ليلة كذا، في بلدة كذا، في شهر كذا، في سنة كذا، جئت الليلة لأقضي حقك، وأونس وحدتك، وأرفع عنك وحشتك، فإذا نفخ في الصور ظَلَّلْتُ في عرصة القيامة على رأسك فافرح فإنك لن تعدم الخير أبدا))( )[4].
وصفة هذه الصلاة عندهم: ((أن يصوم أول خميس من رجب ثم يصلي بين صلاتي المغرب والعشاء اثنتي عشرة ركعة يفصل بين كل ركعتين بتسليمة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، و ثلاث مرات، و اثنتي عشرة مرة فإذا فرغ من الصلاة قال سبعين مرة: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آله، ثم يسجد ويقول في سجوده سبعين مرة: سبّوح قدوس رب الملائكة والروح، ثم يرفع رأسه ويقول سبعين مرة: رب اغفرْ وارحمْ وتجاوز عما تعلم إنك أنت العلي الأعظم، ثم يسجد سجدة أخرى، فيقول فيها سبعين مرة سبّوح قدوس رب الملائكة والروح ثم يسأل حاجته؛ فإنها تقضى إن شاء الله))( )[5] هذه بعض الكيفيات، وهناك كيفيات أخرى لهذه الصلاة تشبه هذه الكيفية بينها الآخرون.
وبعض الناس يقدسون الليلة النصف من رجب فيصلون فيها صلاة باسم((صلاة أم داود))، زعموا أن من صلى هذه الصلاة، يُعطى له بعدد شعرات بدنه من الأجر والثواب( )[6].
والبعض يقدسون الليلة السابعة والعشرين على أنها ليلة المعراج، وقد تقدم في فصل تقديم القرابين بيان ذلك والرد على المقدِّسين لها.
وأما ما قاله المخالفون في تقديس بعض الأيام من شهر رجب، فيقال: تقديس أول ليلة جمعة من شهر رجب أو وسطها دون غيرها، وتخصيصها بعبادة معينة أمر لم يرد عن النبي في ذلك شيء، ولم يخصصه أهل القرون المفضلة بعبادة.
قال السيوطي -رحمه الله-: ((واعلم رحمك الله أن تعظيم هذا اليوم، وهذه الليلة، إنما أحدث في الإسلام "بعد المائة الرابعة" وروي في حديث موضوع باتفاق العلماء مضمونه: فضيلة صيام ذلك، وقيام تلك الليلة وسموها صلاة الرغائب. والذي عليه المحققون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم، وعن قيام هذه الليلة بهذه الصلاة المحدثة، وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنع الأطعمة وإظهار الزينة وغير ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنـزلة غيره من الأيام. وكذلك يوم آخر في وسط رجب تصلى فيه صلاة تسمى "صلاة أم داود"، فإن ذلك أيضاً لا أصل له))( )[7].
وقال ابن رجب -رحمه الله-: ((لم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب و باطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء)) ( )[8].
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن صلاة الرغائب هل هي مستحبة أم لا؟ فأجاب -رحمه الله-: ((هذه الصلاة لم يصلها رسول الله ، ولا أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا رغب فيها رسول الله ، ولا أحد من السلف، ولا الأئمة ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها. والحديث المروي في ذلك عن النبي كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك)) ( )[9].
وقال -رحمه الله-: ((وأما صلاة الرغائب فلا أصل لها، بل هي محدثة فلا تستحب لا جماعة ولا فرادى...والأثر الذي ذُكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء، ولم يذكره واحد من السلف والأئمة أصلا)) ( )[10].
فالحديث الذي يروى في كيفية صلاة الرغائب، وفضلها موضوع( )[11]، كما أن الحديث الذي يروى في صلاة النصف من رجب باسم((صلاة أم داود)) موضوع( )[12].
فتخصيص ليلة النصف من رجب، أو ليلة الجمعة الأولى من رجب بالصلاة أو أي عبادة أخرى بدعة، وذلك لأن هذا التخصيص لم يرد في الشرع.
ولأن هذا العمل أُحدث بعد القرون المفضلة التي كان أهلها أحرص الناس على الخير من غيرهم فلو كانت جائزة لورد عنهم فعلها.
ويضاف إلى هذا أن النبي نهي عن تخصيص ليلة الجمعة ويومها بعبادة خاصة( )[13]، وهذا النهي يشمل أول جمعة من رجب، كما يشمل آخر جمعة من رمضان وغيرها.
وفوق كل هذا أن هذه الكيفيات لهذه الصلاة من قراءة الفاتحة والسور والأذكار والصلاة على النبي .بهذه الأعداد التي يذكرونها لم ترد عن النبي ، ومعلوم أن بيان كيفيات العبادات تكفل بها الشارع، ولم يجعل ذلك إلا على لسان نبيه ولم يثبت عن النبي هذه الكيفيات في شيء من الصلاة، وقد قال النبي : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))( )[14].وفي رواية ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ))( )[15].
الهوامش:
( )[1] الرغائب: جمع الرغيبة وهي العطاء الكثير. يُنظر: مجمل اللغة لابن فارس1/388.
( )[2] ((ناوراه بدعتونه)) لزاهدي أحمد زئي ص:39.
( )[3] ذَلِق: أي حديد بليغ.القاموس المحيط للفيروزآبادي ص: 815.
( )[4] مفاتيح الجنان للقمي ص: 188-189.
( )[5] مفاتيح الجنان للقمي ص: 189
( )[6] ((ناروا بدعتونه)) لزاهدي أحمد زئي ص: 42.
( )[7] الأمر بالاتباع للسيوطي ص: 166-167، يُنظر: البدع والحوادث للطرطوشي ص:267.
( )[8] لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص:131.
( )[9] الفتاوى الكبرى لابن تيمية2/261(كتاب الصلاة مسألة:221)
( )[10] مجموع فتاوى ابن تيمية 26/132.
( )[11] يُنظر: الموضوعات لابن الجوزي2/ 125، والمنار المنيف لابن القيم ص: 65، 66، الفوائد المجموعة للشوكاني ص: 48.
( )[12] الموضوعات لابن الجوزي 2/126، الأمر بالاتباع للسيوطي ص: 167، الفوائد المجموعة للشوكاني ص:50.
( )[13] كحديث ((لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)).صحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب الصيام باب كراهية صيام يوم الجمعة منفردا 8/261(ح2679).
( )[14] تقدم تخريجه في ص: 232.
( )[15] تقدم تخريجه في ص: 232.
انظر: كتاب موقف الإسلام من الانحرافات المتعلقة بتوحيد العبادة. تأليف أبي سعيد عبد الرزاق بن محمد بشر (ج2ص: 1007-1008وص 1028-1031).