الثاني: تقديس غار حراء.
قال أحدهم: (كان الشيخ محمد المشهور بـ ((بميان مير)) ولد سنة 957هـ وكان مقيما في لاهور أكثر من ستين سنة، كان تعلقه مع السلسلة القادرية، وقد بايع الشيخ خضرا( )[1]...وكان لا يأخذ اسم الغوث الأعظم إلا متوضأ( )[2]...وكان عنده كشف القبور( )[3]. يقول أحد مريديه كان الشيخ في أيام الهواء الحار مشغولَ العبادة على سطح الغرفة، وطلب مني الشيخ يوما، أن أضع عنده المروحة وماء الوضوء، ثم أرجع إلى مكاني وأنام.
يقول المريد: فوضعت عنده المروحة، ونسيت أن أحضر له الماء، فتذكرت بعد مضي نصف الليلة؛ فقمت وأخذت الماء، وذهبت إلى مكان الشيخ فلم أجده وكان لباسه موجودا، فقلت لعله يكون داخل الغرفة، فأسرجت السراج وذهبت هناك؛ فلم أجده هناك أيضا، فجلست متحيرا، فلما كان وقت صلاة السَحَرَ -ناداني من الأعلى وقال أعطني ماء الوضوء، فأحضرت له الماء، وسألته: أين ذهبتم أيها الشيخ؟ فقال لي لعلك رأيت الرؤيا، وإنني كنت هنا.
فقلت له: إن لم تخبرني بالحقيقة فسيكون هذا الشيء باقيا إلى عمري في خاطري، فأخبرني واشترط عليَّ أن لا أخبر به أحدا، وإن أخبرت أحدا؛ فسأخسر خسارة كبيرة وقال: إنه ذهب الليلة( )[4] إلى غار حراء، وكنت فيه إلى الآن.
فقلت له: وأين غار حراء؟ فقال: هو الغار الذي كان النبي يتعبد فيه قبل النبوة، وأنا أتأسف على الحجاج الذين يذهبون إلى الحج، ويمرون بهذا الغار، ولا يخرجون إليه لمدة قليلة، ولا يحصل لأحد انشراح الصدر في عبادة اثنتي عشرة سنة، ما يحصل له من الفتوحات وانشراح الصدر بعبادة ليلة واحدة في غار حراء)( )[5].
الثاني: أما تقديس غار حراء، فهو ليس من التقديس الشرعي، وكان أهل الجاهلية قبل مبعث النبي يتعبّدون في غار حراء، كما أن النبي تعبد فيه ليالي ذوات العدد حتى نـزل عليه الوحي، وبعد مبعثه لم يثبت تعبده فيه لا قبل هجرته إلى المدينة ولا بعدها، ولم يكن أصحابه من أهل بيته وغيرهم يقدسون غار حراء، ولا يعتكفون فيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((فتحنثه وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث، ثم إنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته، وفرض على الخلق الإيمان به وطاعته واتباعه، وأقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم أفضل الخلق، ولم يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء.
ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عُمَر: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت، ثم إنه اعتمر من العام القابل عمرة القضية، ودخل مكة هو وكثير من أصحابه، وأقاموا بها ثلاثا.ثم لما فتح مكة وذهب إلى ناحية حنين والطائف شرقي مكة، فقاتل هوازن بوادي حنين، ثم حاصر أهل الطائف وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فأتى بعمرة من الجعرانة إلى مكة.ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع، وحج معه جماهير المسلمين، لم يتخلف عن الحج معه إلا من شاء الله، وهو في ذلك كله، لا هو ولا أحد من أصحابه يأتي غار حراء، ولا يزوره، ولا شيئا من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك عبادة إلا بالمسجد الحرام، وبين الصفا والمروة، وبمنى والمزدلفة وعرفات، وصلى الظهر والعصر ببطن عرنة، وضربت له القبة يوم عرفة بنمرة، المجاورة لعرفة.
ثم بعده خلفاؤه الراشدون، وغيرهم من السابقين الأولين، لم يكونوا يسيرون إلى غار حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء...
ثم قال: ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعا مستحبا يثيب الله عليه؛ لكان النبي أَعْلَمَ الناسَ بذلك [وأسرعَهم إليه]، ولكان يُعَلِّم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أَعلمَ بذلك وأرغَبَ فيه ممن بعدَهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك؛ عُلِم أنه من البدع المحدثة، التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله))( )[6].
فلو كان يحصل انشراح الصدر في ليلة واحدة في غار حراء، ولا يحصل في عبادة اثنتي عشرة سنة كما قاله المخالف؛ لكان النبي أرشد أمته إلى ذلك، لأنه رؤف رحيم بأمته، وما من خير يعلمه لأمته إلا ودّلهم عليه، قال الله تعالى: ( )[7].
وقال النبي ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها))( )[8].
ثم في حكاية سفر الشيخ من لاهور باكستان إلى مكة مبالغات لا يقبلها العقل، فضلا عن أنها مخالفة للنقل، كذهاب من لاهور بباكستان إلى مكة في ليلة واحدة، وبدون أسباب ظاهرة، ثم الرجوع في نفس الليلة!!، مع عدم استطاعته أن يحضر لنفسه ماء الوضوء بدون استخدام المريد، والاشتراط على المريد أن لا يخبر بما يسمع، وتخويفه المريد إن أخبر فسيخسر خسارة كبيرة، ثم إخبار المريد وعدم التزامه بما اشترط عليه شيخه وعدم وفائه بوعده.
ولو سلمنا وقبلنا كل هذه الأمور فسفره من لاهور باكستان للتعبد في غار حراء مخالفة للشريعة الإسلامية لقول النبي : ((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) وفي رواية ((لا تَشُدُّوا الرِّحالَ))( )[9] -بصيغة النهي، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى لما ذا لم يتعبد في المسجد الحرام -إن سلمنا وصوله إلى مكة في ليلة واحدة- فيترك المسجد الحرام ويذهب إلى غار حراء، ومعلوم أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه كما قال النبي : ((صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)) ( )[10].
ففي القصة ترغيب الناس في البدع كزيارات الأمكنة التي لم تشرع زيارتها، كما هو شأن أكثر المبتدعة، فيُرغِّبون الناس وينشطون في البدع، ويتناسون أو يتكاسلون في الأمور المستحبة المشروعة.
الهوامش:
( ) [1]لا أدري هل يقصد بالخضر هذا أحد مشايخه؟ أم يقصد به صاحب موسى كما هو عادة الصوفية؟ والأخير هو الظاهر. والله أعلم.
( )[2] يقصد بالغوث الأعظم: الشيخ عبد القادر الجيلاني، ولا شك أن هذا غلو كبير.
( )[3] أي كان يكشف له أحوال أهل القبور، وهذا الأمر مما لا دليل عليه.
( )[4] أي أنه ذهب الليلة من مدينة لاهور عاصمة إقليم البنجاب بباكستان إلى غار حراء بمكة المكرمة!!، ورجع وقت السحر إلى مكانه بلاهور!!!.
( )[5] ((دخداي نيازبين)) لفقير محمد عباس قادرية ص: 74-78.
( )[6] اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/333-335.
( ) [7]سورة التوبة (128).
( ) [8]صحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب الإمارة باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء12/436(ح4753).
( ) [9]تقدم تخريج الروايتين في فصل الركوع والسجود ص:789.
( )[10] مسند الإمام أحمد3/343،و3/397، وقال محققو المسند: صحيح على شرط البخاري ينظر المسند المحقق بإشراف الأرنؤوط 23/26 (ح14694) و23/415(ح15271).
انظر: كتاب موقف الإسلام من الانحرافات المتعلقة بتوحيد العبادة. تأليف أبي سعيد عبد الرزاق بن محمد بشر (ج2ص:1018-1019و ص1058-1061).