الأصل الثاني : قول الصحابي الموقوف عليه إذا لم يظهر له مخالف:
المراد بقول الصحابي: ما نقل إلينا وثبت لدينا بطريق صحيح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتوى أو قضاء في حادثة شرعية لم يرد فيها نص من كتاب ولا سنة ولم يحصل عليها إجماع.
تحرير محل النـزاع:
قول الصحابي إذا خالفه صحابي آخر ليس بحجة بالاتفاق.
ولا خلاف أن قوله في المسائل الاجتهادية ليس بحجة على صحابي آخر.
و كذلك إذا ظهر رجوع الصحابي عن قوله فليس بحجة أيضاً.
وقول الصحابي إذا انتشر بين الصحابة ولم ينكره أحد فهو حجة على مذهب القائلين بالإجماع السكوتي.
أما إذا كان في مسألة اجتهادية لم تحتمل الاشتهار بين الصحابة بأن كانت مما لا تعم به البلوى ثم نقل قوله هذا إلينا ولم يرد عن غيره من الصحابة خلاف ذلك فهل هو حجة تثبت به الأحكام الفقهية أم لا؟
فنقول قول الصحابي لا يخلو عن حالتين:
1/ أن يكون فيما لا مجال للرأي فيه، يكون حكمه حكم المرفوع.
2/ أن يكون فيما فيه للرأي مجال: فهذا إما أن ينتشر بين الصحابة، وإما أن لا ينتشر:
فإن انتشر ولم يظهر له مخالف من الصحابة، فحكمه حكم الإجماع السكوتي -حجة عند الأكثرين- وإن ظهر له مخالف من الصحابة فلا يؤخذ بقول أحدهما إلا بالترجيح.
وإن لم ينتشر فقيل حجة على التابعي المجتهد، وقيل: لا.
والأقوال التي ذكرها ابن قدامة –رحمه الله- هي أربعة أقوال في المسألة:
1/ حجة يقدم على القياس ويُخص به العموم ]مالك والشافعي في القديم وبعض الحنفية وأحمد وأكثر أصحابه ورجحه[ إلا أن هذا القول منــ.زَّل على ما لا مجال للرأي فيه.
2/ ليس بحجة ولا يجوز تقليده ]رواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب وقول الشافعي وبعض المتكلمين[
3/ الحجة قول الخلفاء الراشدين.
4/ الحجة في قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بالمنقول، والمعقول:
أما المنقول فقوله صلى الله عليه وسلم
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)- الحديث ضعيف، ولمعناه شاهد قوي عند مسلم- ولكون الاقتداء بهم اهتداء جعل قولهم حجة.
واعترض على هذا الدليل بأن الخطاب للعوام الموجودين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو إذن لهم بتقليد الصحابة ، وليس فيه دلالة على أن قول الصحابي حجة ويدل على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خير في الاقتداء بأيهم شاءوا وهذا حكم للعامة أما الصحابي فغير داخل فيه إذا لو كان الصحابي داخل فيه لكان معناه أن قول الصحابي حجة على صحابي آخر وهذا باطل بالاتفاق.
وأجيب عن هذا الاعتراض: بأن اللفظ عام للصحابي وغير الصحابي ولكن الصحابي خرج من هذا اللفظ بدليل وهو القرينة حيث أمر بتقليدهم وجعل الأمر لغيرهم لا لهم.
وأما المعقول: فإن الصحابة أقرب للصواب وأبعد عن الخطأ؛ لأنهم حضروا التنزيل وسمعوا كلام الرسول صلى الله عليه وسل وعرفوا طريقته في بيان الأحكام، فهم أعلم بالتأويل وأولى بالإتباع من غيرهم ، فهم مع غيرهم كالعلماء مع العامة.
أدلة أصحاب القول الثاني: ثلاثة أدلة كلها من المعقول:
1/ أن الصحابي ليس بمعصوم ويجوز عليه الخطأ والنسيان ، وأجيب عن هذا بأن عدم العصمة ليس مانعاً من إتباعه والاحتجاج بقوله، بدليل أن المجتهد غير معصوم ويجب على العامي إتباعه وتقليده والاحتجاج بقوله.
2/ أن الصحابة اختلفوا في بعض المسائل الاجتهادية كمسألة الجد والإخوة فكيف تتصور عصمتهم.
3/ أن الصحابة أجازوا مخالفتهم فلم ينكر أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما على من خالفهما.
دليل أصحاب القول الثالث: من المنقول فقط
قوله صلى الله عليه وسلم
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين).
دليل أصحاب القول الرابع: من المنقول فقط
قوله صلى الله عليه وسلم
اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)
وأجيب عن أدلة القول الثالث والرابع:
بأن هذين المذهبين لا يصحان؛ لأن الأدلة التي دلت على أن قول الصحابي حجة عامة في جميع الصحابة دون تخصيص، وهي: (أصحابي كالنجوم...) و (أن الصحابة أقرب إلى الصواب...).
وقد اعترض على هذا بأن الحديثين (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) و (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) قد صحا عن النبي صلى الله عليه وسلم وخصص الخلفاء الأربعة وأبا بكر وعمر دون غيرهم.
وأجيب عنه: بأنه يحتمل أنه أراد الاقتداء بهم في سيرتهم وعدلهم، ويحتمل أنه ذكرهم لكونهم من جملة من يجب الاقتداء بهم؛ لأنهم أكمل الصحابة في ذلك ، ويدل على ذلك أن بعض الصحابة قد خالف الخلفاء الأربعة في قضايا معلومة ولم ينكر هؤلاء على المخالفين مما يدل على أن أقوال الخلفاء كأقوال سائر الصحابة لا فرق بينهم.
إذا اختلف الصحابة على قولين هل يجوز للمجتهد الأخذ بقول بعضهم بدون دليل؟
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: إذا اختلفوا لم يجز للمجتهد الأخذ بقول بعضهم بدون دليل وهو الراجح والله أعلم]جمهور الأصوليين[
القول الثاني: يجوز الأخذ بأحد قولي الصحابة بشرط أن يظهر هذا القول ولم ينكر منكر على القائل به]بعض الحنفية[ قولهم: (ولم ينكر على القائل قوله) لا فائدة فيه؛ لأن المخالف لابد وأن ينكر وإلا لا خلاف.
أدلة أصحاب القول الأول:
1/ أن قولي الصحابة إذا تعارضا لا يرجح أحد القولين إلا بمرجح قياساً على الكتاب والسنة فلو تعارضت آيتان في نظر المجتهد إحداهما تفيد الجواز والأخرى تفيد التحريم لم يجز له الأخذ بإحداها إلا بمرجح ، وكذلك لو تعارض حديثان في نظره فمن باب أولى أنه إذا تعارض قولان للصحابة أنه لا يرجح إلا بدليل.
2/ لأننا نعلم علماً يقينياً أن أحد القولين صواب والآخر خطأ ولا يمكن أن يكونا كلاهما صواباً أو يكونا كلاهما خطأ ولا نعلم الصواب من الخطأ إلا بدليل، فلا يجوز الأخذ بأحدهما إلا بدليل.
أدلة أصحاب القول الثاني:
1/ أن اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم إجماع منهم على تسويغ الخلاف وتجويز الأخذ بكل واحد من القولين فيكون الأخذ بكل منهما جائزاً بلا دليل باتفاق منهم.
ويجاب عنه: بأن اختلاف الصحابة على قولين يدل على أنهم سوغوا وأجازوا الأخذ بالأرجح منهما ولا يمكن أن يتبين الراجح إلا بالاجتهاد في القولين معاً ولا يمكن الاجتهاد إلا بالأدلة ، ولا يدل اختلافهم أنهم سوغوا الأخذ بأحد القولين من غير دليل.
2/ أن عمر رجع إلى قول معاذ في ترك رجم المرأة التي غاب عنها زوجها وعاد وهي حامل فرفعها إلى عمر فأمر برجمها فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فقال: عمر احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاماً له ثنيتان، فلما رآه أبوه قال : ابني ، فبلغ ذلك عمر فقال
عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ لولا معاذ لهلك عمر) فيستدلون بهذه الواقعة وأن عمر رجع إلى قول معاذ في هذه القضية بدون أن يستعلم رأي غيره مع وجود بعض الصحابة الذين هم من أهل الاجتهاد فهذا يدل على جواز الأخذ بأحد قولي
الصحابة من غير دليل.
ويجاب عنه: بأن عمر -رضي الله عنه- رجع إلى قول معاذ -رضي الله عنه-؛ لأنه قد ظهر له رجحان قوله وأن الحق معه وذلك بالدليل لا أنه اتبع رأي معاذ مجرداً بلا دليل.