الانحراف الرابع: أداء السجدة الواحدة بعد السلام من الصلاة المكتوبة وغيرها.
إن بعض الناس يسجدون سجدة واحدة (باسم سجدة التوبة عند البعض، وسجدة الشكر عند الآخرين)، وهي تكون بعد أداء الصلاة المكتوبة غالبا، ويطولون المكث في وضع الرأس على الأرض، ويدعون ما بدا لهم من الأدعية والاستغفار، ثم يرفعون رؤوسهم، وينصرفون.
قال الشيخ زاهدي: (وبعض الناس يسجدون بعد أداء الصلاة باسم سجدة التوبة، وهذه بدعة لا أساس لها في الشرع)( )[1].
وبعض الناس لا يسجدونها باسم سجدة التوبة، وإنما يسجدون بعد السلام سجدة أو سجدتين مفردتين باسم سجدة الشكر، ولعلهم رأوا أو سمعوا ما يرويه الرافضة في كتبهم كقولهم: ((والأفضل ما كانت هذه السجدة[يعني سجدة الشكر] بعد الصلاة شكرا لتوفيق الله تعالى لأدائهما)) ( )[2].
وما ينسبونه إلى جعفر الصادق -رحمه الله-: ((سجدة الشكر واجبة على كل مسلم تتم بها صلواتك، ترضي بها ربك، تعجب لها الملائكة منك، وإن العبد إذا صلّى ثمّ سجد سجدة الشكر؛ فتح الرب تعالى الحجاب بين العبد وبين الملائكة، فيقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبدي أدّى فرضي، وأتمّ عهدي، ثم سجد لي شكراً على ما أنعمت به عليه. ملائكتي ما ذا له؟ قال: فتقول الملائكة: يا ربنا! رحمتك، ثم يقول الرب تبارك وتعالى:ما ذا له؟ فتقول الملائكة: يا ربنا جنتك. فيقول الرب تبارك وتعالى: ما ذا؟ فتقول الملائكة: يا ربنا كفاية مهمة. فيقول الرب تبارك وتعالى: ما ذا ؟ قال فلا يبقى شيء من الخير إلا قالته الملائكة، فيقول الله تبارك وتعالى: يا ملائكتي ثمّ ما ذا له؟ فتقول الملائكة: يا ربنا لا علم لنا.قال: فيقول الله تبارك وتعالى: أشكر له كما شكر لي، وأقبل إليه بفضلي، وَأُرِيهِ رحمتي العظيمة في يوم القيامة))( )[1].
موقف الإسلام من الانحراف الرابع: وهو أداء السجدة الواحدة بعد السلام من الصلاة المكتوبة وغيرها.
إن ما يفعله بعض الناس من السجدة الواحدة عقب السلام من الصلاة مباشرة، بنية سجود الشكر، أو سجود التوبة بدعة لم يصح شيء في ذلك عن النبي ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن غيرهم من أصحابه ، وكل أمر ليس على هدي النبي باطل ومردود لقوله : ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ))( )[2].
وليس في الشريعة ما تسمى بسجدة التوبة -كما يفعلها الناس عقب الصلوات- نعم، ذكر بعض العلماء ما تسمى بصلاة التوبة( ) [3]لحديث: ((ما من رجل يذنب ذنبا، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له)) ثم قرأ هذه الآية ... ( )[4] ( )[1].
وأما سجود الشكر فيكون عقب استحداث نعمة أو اندفاع نقمة -لا عقب الصلوات- كما وردت بذلك مجموعة من الأحاديث –لا تخلو أسانيدها من مقال- لكنها بمجموعها تثبت مشروعية ذاك السجود، منها: ((أن النبي كان إذا أتاه أمر سرور -أو بُشِّر به- خرّ ساجدا شاكرا لله)) ( )[2]، وثبت عن أبي بكر أنه سجد حــين جاءه خبــر فتـح يمامة( )[3]، وسجد علي بن أبي طالب ، حين وجد ذا الثدية بين قتلى الخوارج( )[4]، وسجد كعب بن مالك في عهد النبي لماَّ بُشِّر بأن الله تعالى تاب عليه( )[1].
وفي الفتاوى الهندية: ((وما يفعل عقيب الصلوات [من السجود]مكروه، لأن الجهال يعتقدونها سنة، أو واجبة وكل مباح يؤدي إليه[أي مكروه]؛ فمكروه)) ( )[2].
وفي الدر المختار-: ((سجدة الشكر مستحبة به يُفتى، لكنها تكره بعد
الصلاة، لان الجُهّال يعتقدونها سنة أو واجبة، وكل مباح يؤدي إليه فمكروه)) ( )[1]. قال ابن عابدين الحنفي -رحمه الله-: ((قوله: فمكروه. الظاهر أنها تحريمية، لأنه يدخل في الدين ما ليس منه))( )[2].
وفي فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ((سجود الشكر يكون عند حدوث نعمة تقتضي الشكر، أما عقب الوتر، أو صلاة الضحى، فلا نعلم له أصلاً في الشرع( )[3].
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية: ((يُنكر ما يفعله طائفة من سجدتين مجردتين بعد الوتر...وأنكر من هذا ما يفعله بعض الناس من أنه يسجد بعد السلام سجدة مفردة؛ فان هذه بدعة، ولم ينقل عن أحد من الأئمة استحباب ذلك، والعبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإن الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله وحده، وأن نعبده بما شرعه على لسان رسوله، لا نعبده بالأهواء والبدع)) ( )[4].
وسئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: ((يوجد في بلدتنا بعض المصلين يسجدون سجدتين عقب كل صلاة مباشرة -بعد أن يسلموا تسليمة الصلاة- وعند سؤالهم عن ذلك أجابوا بأنهم يسجدون السجدة الأولى شكراً لله على توفيقه لهم أن أدوا الصلاة المكتوبة في جماعة، أما السجدة الثانية فشكراً على الشكر، ويزعمون أن لهذا العمل أصلا في السنة فما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: على قياس قولهم: أنهم إذا سجدوا السجدة الثانية يجب أن يسجدوا سجدة ثالثة شكراً لله على شكرهم، ثم يسجدون سجدة رابعة وهكذا ويبقون دائماً في سجود، ولكني أقول: إن هاتين السجدتين بدعتان، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتعبد لله بما لم يشرعه لقوله : "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"( )[1]. وهاتان السجدتان لا شك أنهما غير مشروعتين، والواجب عليهم الانتهاء عن ذلك، والكف عنه، والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى مما وقع سابقاً والله تعالى يتوب على من تاب)) ( )[2].
وما ذكرها المخالف من الرواية المنسوبة إلى جعفر الصادق -رحمه الله- في فضل السجدة المفردة بعد الصلاة، وما يجري بين الله وملائكته -بدون سند- فلا تثبت عن الإمام جعفر -رحمه الله- سنداً، ولا يتصور صدور مثل هذا الكلام عنه، لأنه لا يمكن إخبار عما يجري بين الله والملائكة إلا عن طريق الوحي، ومن المتفق عليه بين المسلمين أن الإمام
جعفر الصادق -رحمه الله- لم يكن نبيا، ولم يوحَ إليه شيء قط، ولا إلى أحد غيره بعد النبي .
وبما سبق نصل إلى أن السجود لغير الله محرم قطعا، سواء كانت السجدة عادة أو عبادة، وليس في الشريعة الإسلامية المليئة بالآداب والحقوق، ما يدل على جواز السجود إلى غير الله أدبا أو تعظيما، وما استحدثه البعض من السجود على شيء معين، أو من السجود عقب الصلوات باسم: سجود التوبة، أو سجود الشكر بدعة لا أصل لها في الدين.
الهوامش
( ) [1]((ناروا بدعتونه)) لزاهدي أحمد زي ص: 42.
( ) [2]كتاب الباقيات الصالحات ضميمة كتاب مفاتيح الجنان كلاهما للقمي سجدة الشكر ص: 684.
( )[1] كتاب الباقيات الصالحات ضميمة كتاب مفاتيح الجنان كلاهما للقمي سجدة الشكر ص: 685.
( )[2]تقدم تخريجه في ص:228.
( ) [3]رد المحتار لابن عابدين صلاة الحاجة2/30، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/501، وأسنى المطالب لان حجر كتاب الصلاة الباب السابع صلاة التطوع صلاة الضحى 1/581.
( )[4] سورة آل عمران (135).
( )[1]أخرجه الترمذي في سننه كتاب مواقيت الصلاة باب ما جاء في الصلاة عند التوبة ص110 (ح406) وحسنه الألباني.ينظر: صحيح سنن الترمذي 1/234(ح406) وقال أبو مالك: وفي سنده ضعف إلا أن الآية تشهد لمعناه، على أنه قد صححه بعض أهل العلم.يُنظر: صحيح فقه السنة لأبي مالك كمال بن السيد سالم كتاب الصلاة، صلاة التوبة1/431.
( )[2] أخرجه أبو داود في سننه كتاب الجهاد باب سجود الشكر ص:492 (ح2774) وابن ماجه كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر ص: 248(ح1394) والترمذي في سننه كتاب السير باب ما جاء في سجدة الشكر ص: 373(ح1578) وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم؛ رأوا سجدة الشكر. والحديث حسنه الألباني يُنظر: صحيح سنن الترمذي للألباني كتاب السير باب ما جاء في سجدة الشكر2/ 199(ح1578)، وصححه الشيخ ابن باز في مجمع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز11/424، وذكر أبو مالك له اثني عشر شاهدا في تحقيقه على تعظيم قدر الصلاة للمروزي ص: 150
( ) [3]يُنظر: مصنف عبد الرزاق3/358 برقم(ح5963)، والسنن الكبرى للبيهقي 2/519(ح3940).
( ) [4]يُنظر: مسند الإمام أحمد 1/107،147، ومصنف ابن أبي شيبة سجدة الشكر 3/545 (ح8501)، ومصنف عبد الرزاق باب سجد الشكر3/358 برقم (ح5962)، والسنن الكبرى للبيهقي باب سجود الشكر2/519(ح3941)، وقال أحمد شاكر إسناده صحيح. يُنظر: المسند بتحقيق أحمد شكر1/534(ح848) و2/121(ح1254).
( ) [1]صحيح البخاري مع الفتح لابن حجر كتاب المغازي باب حديث كعب8/141 (ح4418)، وصحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب التوبة باب حديث توبة كعب 17/89(ح6947).
( ) [2]الفتاوى الهندية للشيخ نظام الحنفي1/136 في آخر الباب الثالث عشر في سجود التلاوة.
( )[1] الدر المختار للحصكفي مع رد المحتار لابن عابدين 2/129.
( ) [2]رد المحتار لابن عابدين كتاب الصلاة، مطلب في سجدة الشكر2/ 129.
( ) [3]فتاوى اللجنة الدائمة السعودية للإفتاء 7/270.
( ) [4]مجموع فتاوى ابن تيمية 23/93-94.
( ) [1]متفق عليه وتقدم تخريجه في ص: 228.
( ) [2]مجمع فتاوى ورسائل ابن عثيمين 14/320.
انظر: كتاب موقف الإسلام من الانحرافات المتعلقة بتوحيد العبادة. تأليف أبي سعيد عبد الرزاق بن محمد بشر (ج2 ص:779-780 وص801-806)