العقيدة الإسلامية لها مصدران فقط، هما: كتاب الله عز وجل، وما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس للعقيدة مصدر ثالث؛ لأن إجماع السلف الصالح لا يكون إلا على الكتاب والسنة.
يقول الإمام البيهقي "ت458هـ": "فأما أهل السنة، فمعولهم فيما يعتقدون: الكتاب والسنة".
ويقول العلامة صديق حسن خان رحمه الله: "للإسلام أصلان فقط؛ القرآن، والسنة الصحيحة"، ويعقب على ذلك بقوله: "وإنما حصرنا الأصول في كتاب الله تعالى، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمة مأمورة بهما".
وما على الأمة إلا الاعتصام بما أمرت بالاعتصام به؛ كتاب ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم؛ إذ الاعتصام بهما سبب للعصمة من الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل، وسبب للعصمة من الوقوع في الاضطراب في فهم العقيدة، ولأنه يجمع الأمة ولا يفرقها. يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه : 123] .
ولا ريب أن الاعتصام بالكتاب والسنة من أعظم ما من الله به على هذه الأمة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض حديثه عن السلف الصالح: "وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم: اعتصامهم بالكتاب والسنة".
منزلة العقل ومجالاته في الإسلام:
إن الله عز وجل امتن على الإنسان بنعمة العقل الذي ميزه به عن سائر الحيوانات. وهذه النعمة هي التي ترفع صاحبها إلى مستوى التكاليف الشرعية الإلهية، وتؤهله لإدراكها وفهمها.
وليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني، وتكريمه، والاعتماد عليه في فهم النصوص كالعقيدة الإسلامية، ويبدو هذا واضحا في آيات كثيرة من كتاب الله، مدح الله عز وجل فيها العقل، ورفع من شأنه، من خلال توجيهه إلى النظر، والتفكر، والتدبر، والتأمل.
ولكن لما كان للعقول في إدراكها حد تنتهي إليه لا تتعداه، لم يجعل الله لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب؛ فلم يجعل لها سبيلا لإدراك أغلب مسائل الاعتقاد؛ إذ لا يمكن للعقول أن تستقل بمعرفتها لولا مجيء الوحي بها وبأدلتها العقلية. وما على العقول إلا فهمها وتدبرها.
وأيضا، فإن كثيرا من مسائل الاعتقاد لا تدرك العقول حقيقتها وكيفياتها، ولو فهمت أدلتها وتدبرتها؛ كالروح التي في أجسادنا: عسر على الناس التعبير عن حقيقتها لما لم يشهدوا لها نظيرا.
وكذا صفات ربنا عز وجل، رغم أننا فهمنا معانيها بعقولنا من اعتبار الغائب بالشاهد، إلا أن حقيقتها وكيفياتها لا تدركه عقولنا؛ لأن العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف. والموصوف عز وجل ليس كمثله شيء؛ فهو متصف بصفات الكمال التي لا يماثله فيها شيء.
وكذا ما أخبر الله جل جلاله عنه من أمور الآخرة؛ كالجنة ونعيمها، والنار وجحيمها، وغير ذلك من المغيبات، ليست من مدارك العقل، ولا في متناوله، مع أن العقل يقر بها، ولا يحيلها.
وإذا كان كذلك، فالعقل مطالب بالتسليم للنصوص الشرعية الصريحة، ولولم يفهمها أو يدرك الحكمة التي فيها؛ فالأمر ورد بقبولها والإيمان بها. فإذا سمعنا شيئا من أمور الدين، وعقلناه، وفهمناه، فمن الله التوفيق، وله الحمد والشكر على ذلك. ومالم ندركه أو نفهمه، آمنا به وصدقناه
فالنقل الصحيح -متواترا كان أو لم يكن، وسواء وافقه العقل أو لم يوافقه- يفيد العلم اليقيني فيجب قبوله، وأن لا يقدم العقل على النقل؛ لأن الرسول كان أعقل الناس على الإطلاق، ومع ذلك لم يحصل له الهدى بمجرد عقله الكامل، بل بالوحي المنـزّل، قال تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: ٥٠]، فكيف يحصل لغيره الاهتداء بالعقل دون النقل.
وقد كان في العرب دهاة وأذكياء، ولكن لم تقم الحجة عليهم بعقولهم، حتى أرسل الله رسوله بالهدى والوحي المنـزل، قال الله تعالى:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: ١٥].
والخبر الصحيح يفيد العلم اليقيني -سواء كان متوترا كالقرآن وبعض الأحاديث، أو لم يكن متواترا كأكثر الأحاديث-.
ولو لم يفيد الخبر الذي جاء عن المغيبات -كأمور يوم الآخرة وما يتعلق بالأسماء والصفات - العلم واليقين، لما صح إيمان المؤمن، بل كانوا كالكفار الذين يظنون ظنا كما قال الله تعالى عنهم: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ }[الجاثية: ٣٢] ولكن المؤمنون يوقنون بالآخرة كما قال:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: ٤] وما جاء يقينهم هذا إلا عن جهة الخبر لأن المغيبات -كأمور القيامة والأسماء والصفات- لا مدخل للعقل في تفاصيله، ولا تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح.
ويظهر التعارض بين العقل والنقل لأحد الأمور الأربعة:
1- الظن بأمر أنه معقول وهو ليس بمعقول(كأسماء الله وصفاته)
2- الظن بما لم يصح نقله أنه منقول(كالأحاديث الموضوعة، والمردودة).
3- الظن بأن الشارع أراد كذا وهو لم يرده(وهو تأويل الباطل).
4- عدم التفريق ما يعرف بالعقل ولا يستطيع العقل معرفته(كالمغيبيات الشرعية).
ومن هنا يقال: لو ظهر تعارض العقل والنقل قدم النقل وجوبا، لأن العقل صدّق الشرع (النقل) ومن ضرورة تصديقه قبول أخباره.
ومن هنا قيل: يكفيك من العقل أن يعلمك صدق الرسول ومعاني كلامه، ثم يخلي بينك وبينه، وقيل : العقل سلطان ولّى الرسول ثم عزل نفسه.
ويتضح هذا بمثال خارجي: فمثلا إذا صدّق رجلٌ مهارة الطبيب وزكّاه، وشهد لعلمه في باب الطب، ثم جاء الخلاف بينه وبين ذلك الطبيب في مسألة من مسائل الطب، فسيقول له الطبيب: أنت زكيتني، وشهدت لي بأني حاذق في باب الطب، وهذا من تخصصي وليس من تخصصك، فالقول في باب الطب هو قولي، كان كلام الطبيب صحيحا، ودعوى الرجل باطلة.
فهكذا شهد العقل للرسول بأنه صادق فيما يخبر، فإذا خالفه فيما أخبر الرسول من أمور لا سبيل للعقل إلى معرفته كصفات الله عز وجل أو أمور الآخرة ونحوها كان قول الرسول صحيحا راجحا مقبولا ودعوى العقل باطلة.
ويقال من وجه ثالث: إن تقديم العقل على النقل يتضمن قدح العقل والنقل جميعا.
وذلك لأن العقل شهد للنقل أنه أعلم منه ولذلك سلم نفسه له وقبل قوله، ثم إذا قدم العقل نفسه عليه وحكم عليه، فهذا قدح في شهادته، وأنه كان على الخطأ في شهادته، وإذا أبطل شهادة بطل قبول قوله، فهذا قدح في نفسه وقدح في النقل معا.
ويقال من وجه رابع: إن الله كمّل دينه ولم يتركه بحاجة إلى غيره، قال تعالى:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }[المائدة: ٣] فلو كان الدين في حاجة إلى شيء سوى الدين (النقل) لما كمُل وكان ناقصا، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: ٥١ ] فلا حاجة لغير النقل في الدين، فضلا أن يكون هو معارضا للنقل.