فأول واجب على الإنسان أن يعرف الله، والمراد أول واجب لذاته، وأما أول واجب لغيره فهو النظر والتدبر الموصل إلى معرفة الله. فالعلماء رحمهم الله قالوا: أول ما يجب على الإنسان أن ينظر، فإذا نظر وصل إلى غاية وهي المعرفة، فيكون النظر أول واجب لغيره، والمعرفة أول واجب لذاته.
وقال بعض أهل العلم: إن النظر لا يجب لا لغيره ولا لذاته؛ لان معرفة الله عز وجل معلومة بالفطرة والإنسان مجبول عليها، ولا يجهل الله عز وجل إلا من اجتالته الشياطين، ولو رجع الإنسان إلى فطرته لعرف الله دون أن ينظر ويفكر. قالوا ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة)، وقوله في الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين)، فصار الصارف عن مقتضى الفطرة حادث وارد على فطرة سليمة.
فأول ما يولد الإنسان يولد على الفطرة، ولو ترك ونفسه في أرض برية ما عبد غير الله، ولو عاش في بيئة مسلمة ما عبد غير الله، وحينئذ تكون عبادته لله، وإذا عاش في بيئة مسلمة يكون المقوم لها شيئين هما الفطرة والبيئة، لكن إذا عاش في بيئة كافرة فإنه حينئذ يحدث عليه هذا المانع لفطرته من الاستقامة، لقول النبي : ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)).
إذا معرفة الله عز وجل لا تحتاج إلى نظر في الأصل، ولهذا نجد عوام المسلمين الآن ما فكروا ونظروا وقرءوا في الآيات الكونية والآيات الشرعية حتى عرفوا الله، بل عرفوه بمقتضى الفطرة، ولا شك أن للبيئة تأثيرا لكنهم ما نظروا، بل إن بعض الناس - نسأل الله العافية - إذا نظر وأمعن ودقق وتعمق وتنطع ربما يهلك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) .
فالصحيح أن أول واجب معرفة الله، وأما النظر فلا نقول أنه واجب، لكن لو فرض أن الإنسان احتاج إلى النظر فحينئذ يجب عليه النظر، مثل لو كان إيمانه فيه شيء من الضعف ويحتاج إلى تقوية فحينئذ لابد أن ينظر، ولهذا قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) (الأعراف: 185)
فإذا وجد الإنسان في إيمانه ضعفا حينئذ يجب أن ينظر، ولكن لا ينظر من زاوية الجدل والمعارضات والإيرادات؛ لأنه إن نظر من هذه الزاوية يكون مآله الضياع والهلاك، ويورد عليه الشيطان من الإشكالات والإيرادات ما يقف معها حيران.
لكن ينظر من زاوية الوصول إلى الحقيقة، فمثلا إذا نظر إلى الشمس - هذا المخلوق العظيم الكبير الوهاج - فلا يقل: من الذي خلقه؟ خلقه الله. فمن خلق الله؟ فهذا لا ينبغي، بل يقول: خلقه الله ويقف؛ لان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ننتهي إذا قال لنا الشيطان من خلق الله؟ لنقطع التسلسل، لأنك لو قلت من خلق الله؟ وقلت مثلا: خلقه شيء ما، سيقول لك الشيطان: فمن خلق هذا الشيء؟ ثم تتسلسل إلى ما لا نهاية له، وتضيع في البحر الذي لا ساحل له.
فالحاصل أن النظر لا يحتاج إليه الإنسان إلا عند الضرورة كالدواء، فإذا ضعف إيمانه أو رأى من نفسه ضعفا فلينظر، وإلا فمعرفة الله مركزة في الفطر.
وأهل الكلام متنازعون في أن أول الواجبات معرفة الله، أو النظر المفضي إلى العلم بحدوث العالم، أو القصد إلى النظر، أو الشك السابق على القصد.
وباستثناء القول بالشك، فإن النزاع هنا لفظي، فإن النظر واجب وجوب الوسيلة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به، والمعرفة واجبة وجوب المقاصد. فأول واجب وجوب الوسائل هو النظر، وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة. ومن هؤلاء من يقول أول واجب هو القصد إلى النظر، وهو أيضا نزاع لفظي، فإن العمل الاختياري مطلقاً مشروط بالإرادة.
أما القول بأن أول الواجبات هو الشك، وهو منسوب إلى أبي هاشم عبد السلام بن أبي علي الجبائي المعتزلي، فهو قول باطل لفظاً ومعنى؛ قال أبو المعالي بعد ذكره لقول أبي هاشم: "وهذا خروج منه من قول الأمة وتوصل منه إلى هدم أصله، وذلك أن كل واجب مأمور به، وتقدير الأمر بالشك متناقض إذ يثبت العلم بالأمر، واعتقاد ثبوته والعلم به مع التشكك فيه متناقضان".