الشرك: تعريفه، وقوعه في هذه الأمة.
أ: الشرك لغة:
قال ابن فارس: أصل كلمة الشرك ( الشين، والراء، والكاف) يدل على المقارنة وخلاف الانفراد. والشركة هو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، يقال: شاركت فلانا في الشيء، إذا صرت شريكه، وأشركت فلانا إذا جعلته شريكا لك، قال الله تعالى في قصة موسى {وأشركه في أمري}[طه: ٣٢ ]( )[1].
الشِّرْك، والشِّرْكة، والشَّرِكة بمعنى واحد وهو مخالطة الشريكين.
قال الراغب: الشِّرْكة والمشاركة خلط الملكين، وقيل هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعداً( )[2].
واجتماع الشركاء في شيء لا يقتضي تساوي أنصبائهم فيه ولا يمنع زيادة قسط على الآخر، ويطلق الشرك على النصيب والحظ والحصة، كما في الحديث: «من أعتق شركا له في عبد»( )[3]، أي حصة ونصيا( )[4].
ويطلق مادة الشرك على التسوية، قال ابن منظور الإفريقي -رحمه الله-: «طريق مشترك: يستوي فيه الناس. واسم مشترك: تشترك فيه معان كثيرة كالعين ونحوها فإنه يجمع معاني كثيرة»( )[5].
والشَّرَك بفتحة الشين والراء معا يطلق على حبالة الصائد وما ينصبه للطير ونحوه، وفي الحديث: «أعوذ بك من شر الشيطان وشركه»( )[6]، أي ما يدعو إليه ويوسوس به من الإشراك بالله تعالى، ويروى بفتح الشين والراء، أي حبائله ومصايده( )[7].
ويجمع الشرك على الأشراك مثل شبر وأشبار، ويجوز أن يكون جمع الشريك كشهيد وأشهاد، ويجمع الشريك على الشركاء، كما يقال شريف أشراف وشرفاء( )[8]
قال الشيخ مبارك الميلي( )[9]: «ومرجع مادة الشرك إلى الخلط والضم: فإذا كان بمعنى الحصة من الشيء يكون لواحد وباقيه لآخر أو آخرين؛ كما في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ [فاطر: 40]؛ فالشريك مخالط لشريكه، وحصته منضمة لنصيب الآخر.
وإذا كان بمعنى الحبالة؛ فإن ما يقع فيها من الحيوان يختلط بها وينضم إلى ملك الصائد.
وإذا كان بمعنى معظم الطريق، فإن أرجل السائرين وأقدام الماشين تختلط آثارها هنالك، وينضم بعضها إلى بعض. وإذا كان بمعنى سير النعل؛ فإن النعل تنضم به إلى الرجل فيخلط بينهما.
ثم اجتماع الشركاء في شيء لا يقتضي تساوي أنصبائهم منه، ولا يمنع زيادة قسط على آخر، فموسى يسأل ربه إشراك أخيه له في الرسالة، وقد أجيب سؤله؛ لقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: ٣٦ ]، وضروري أن حظ هارون من الرسالة دون حظ موسى، ولهذا تقول: فلان شريك لغيره في دار أو أرض أو بضاعة، ولو لم يكن له منها إلا معشار العشر، بل الأجير على جزء من الربح كالخماس وعامل القراض شريك لرب المال من غير أن يكون له حظ من الأصل، هذا في الحسيات، ومثله في المعنويات؛ تقول: الأبوان شريكان في طاعة ابنهما لهما، وإن كان حق الأم في الطاعة أقوى، وتقول: أبنائي شركاء في محبتي، وأنت تحب بعضهم أشد من بعض»( )[10].
ب: معنى الشرك شرعاً :
للعلماء في التعريف الشرعي للشرك عبارات متنوعة منها:
1- الشرك هو: أن تجعل لله نداً وهو خلقك ( ) [11].
2- عدل غير الله به في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى( ) [12].
3- جعل شريك لله تعالى في ربوبيته وإلهيته ( ) [13].
4- أن تعدل بالله مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده ( ) [14].
5- تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية( )[15].
6- أن يجعل لله ندا يدعوه كما يدعو الله، أو يخافه، أو يرجوه، أو يحبه كما يحب الله، أو يصرف له نوعا من أنواع العبادة( )[16].
نرى أن أقوال العلماء متقاربة، وكلها تؤدي معاني متقاربة، وهو أن يساوى مع الله غيره أو أن يعطى له شيئا من مستحقات الله عز وجل.
فمن هنا نستطيع أن نقول: الشرك هو مساواة غير الله بالله تعالى فيما هو حق لله عز وجل، بغض النظر عن هذه المساواة قد تكون من كل وجه، وقد تكون من وجه واحد.
قال الشيخ إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي (ت1246هـ): «اعلم أن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدا بالله، ويساوي بينهما[من كل الوجوه]، فلا فرق، بل إن حقيقة الشرك أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها اللَّه بذاته العلية، وجعلها شعارا للعبودية، لأحد من الناس، كالسجود لأحد، والذبح باسمه، والنذر له، والاستغاثة به في الشدة، واعتقاد أنه حاضر ناظر في كل مكان، وإثبات قدرة التصرف له، وكل ذلك يثبت به الشرك، ويصبح الإنسان به مشركا، وإن كان يعتقد أن هذا الإنسان، أو الملك أو الجني الذي يسجد له، أو يذبح، أو ينذر له، أو يستغيث به، أقل من اللَّه شأنا، وأصغر منه مكانا»( )[17].
هل يوجد الشرك في الأمة المحمدية؟
إن بعض الناس لم يعرّفوا الشرك بتعريف جامع مانع؛ وإنما عرّفوه بتعريف ناقص يشمل بعض أفراده، وزعموا أنه لا شرك إلا في هذه الصور فقط، لذا أنكروا وجود الشرك في هذه الأمة.
وعندهم: «الشرك هو: طلب الشيء من غير رب العالمين، على أساس كونه إلهًا، فإن ما دون ذلك ليس بالشرك، ولا فرق في ذلك بين حي وميت، فطلب الحاجة من الحجر أو الصخر ليس شركًا، وإن يكن عملًا باطلًا، ثم إننا نطلب المدد من الأرواح المقدسة للأنبياء والأئمة، ممن قد منحهم الله القدرة»( )[18].
فمن طلب شيئا من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، لا يكون شركًا، إلا إذا اعتقد الطالب أن المطلوب منه رب أو إله.
ولذا قال بعضهم: إن الشرك والعبادة لا يتحققان إلا باعتقاد الربوبية لغيره تعالى والاستقلال بالنفع والضر والإيجاد والخلق ونفوذ المشيئة لا محالة والتأثيرات بالذات دون الحاجة إلى الغير، فليس في المسلمين الموحدين المستغيثين بالصالحين شرك، وهم برآء من الشرك( )[19].
لكن في الحقيقة من صرف شيئا من العبادات إلى غير الله، ولو لم يعتقد فيه استقلال الربوبية والألوهية فهو مشرك بحكم القرآن الكريم. قال تعالى قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (*) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: ١٦٢ - ١٦٣ ]، فمن صرف شيئا من هذه الأنواع لغير الله ولو لم يعتقد أنه رب أو إله مستقل فقد أشرك، كما أن مشركي مكة لم يقل برب مستقل متساوي مع الله وإنما قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: ٣].
وقد أخبر النبي وهو الصادق المصدوق أن الشرك سيقع في أمته لا محالة، فقال: «لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان»( )[20].
وفي رواية: «لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى يعبدوا الأوثان»( )[21]. وفي رواية أخرى:« وستعبد قبائل من أمتي الأوثان»( )[22].
وهذه الروايات كلها صحيحة، وتدل على أن الشرك سيقع في أمة محمد .
بل يتأكد من بيان وصف النبي لحالة مشركي أمته أثناء تلبثهم بالشرك الأكبر، بأن الشرك الأكبر سيقع في أمته ، حيث قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطربَ أَلياتُ( )[23]نِسَاءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذِى الخَلَصَةِ»( )[24].
قال الشيخ علي القاري -رحمه الله- في معنى الحديث المذكور: «تسعى نساء بني دوس طائفات حول ذي الخَلَصَة( )فتَـرْتَجُّ أعجازُهن مضطربةً أَلَيَاتُهن»( )[26].
ففي هذه الأحاديث المتقدمة الذكر يخبر الصادق المصدوق أنه يكون في أمته من يشرك الشرك الأكبر كالطواف حول ما لا يجوز الطواف حوله، والطواف عبادة بلا نزاع.
وقد يتشبث القائلون بعدم وقوع الشرك في الأمة المحمدية ببعض الشبهات يجدر ذكرها والرد على استدلالهم، من أشهرها ما يلي( )[27]:
1- قوله:«والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها»( )[28].
وجه استدلالهم : أن الرسول ما خاف علينا الشرك فكيف يقع الشرك في هذه الأمة؟( )[29].
ويجاب عن هذه الشبهة بما أجاب به الحافظ ابن حجر في «الفتح»، حيث قال في شرح الحديث:
أ - (أي على مجموعكم، لأن ذلك قد وقع من البعض، أعاذنا الله تعالى منها)( )[30].
ب - أو يقال: إنه في الصحابة خاصة، لأن الرسول قال: «عليكم».
قال الحافظ في «الفتح»: (فيه إنذار بما سيقع فوقع كما قال ...وأن الصحابة لا يشركون بعده، فكان كذلك، ووقع ما أنذر به من التنافس في الدنيا)( )[31].
جـ - أو يقال: (لعل النبي قال ذلك قبل أن يعلم ويوحى إليه بأن طوائف من الأمة سوف يضلون ويشركون)( )[32].
ومن شبههم أيضاً استدلالهم بــــ:
2 - حديث : «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب»( )[33].
وجه استدلالهم: (إن هذه البلاد بفضل الله طاهرة من كل رجس سالمة من كل شرك بإخبار رسول الله )( )[34].
يجاب عن هذه الشبهة: بأن هذا الفهم الذي ذكروه لم يفهمه المحدّثون ولا السابقون الأولون، بل المعنى الذي فهموا منه هو النهي عن التمكين لدينين أن يجتمعا في جزيرة العرب، وليس المقصود به نفيه؛ إذ كيف يمكن حمله على النفي وقد كان هناك أديان - لا دينان فقط - عند موت النبي وحتى في صدر الخلافة الراشدة في جزيرة العرب.
ثانياً: لو حملنا الحديث المنسوب إلى النبي بهذا اللفظ على النفي لكنّا قد كذبنا الواقع؛ فإن جزيرة العرب في تحديدهم (جنوباً وشمالاً: من عدن إلى ديار بكر، وشرقاً وغرباً: من العراق إلى مصر، فتدخل فيها اليمن، والحجاز، ونجد، والعراق، والشام، ومصر)( )[35]، فإن قلنا بحمل الحديث على النفي فإننا قد فتحنا لغير المسلمين باباً للضحك على عقولنا في رد الأحاديث، بدلالة كذب الواقع له، فإن في هذه الديار المذكورة كم من الأديان، وكم من الكنائس أيضاً، وهي ما زالت معمورة من أول الإسلام حتى عصرنا الحاضر.
ثالثاً: أن ما ذكروه من الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ( )[36]، وما ورد أيضاً بلفظ: «لا يبقين دينان بأرض العرب»( )[37]، وما رواه الإمام أحمد في المسند بلفظ: «لا يترك بجزيرة العرب دينان»( )[38]، كل هذه الأحاديث إنما جاءت في سياق رواية وصية النبي وآخر عهده في حياته، وهي تدل صراحة على أن المراد بالحديث إنما هو النهي لا النفي.
رابعاً: أن جميع من روى هذا الحديث من أصحاب الحديث كلهم ذكروه بعبارات تدل على أن المراد هو النهي، لا النفي، فمن هذه الروايات ما يلي:
1 - عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب... »( )[39].
وهناك روايات صريحة تدل على أن هذا إنما هو أمر النبي ، منها:
عن ابن عباس: في حديث طويل قال : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»( )[40].
وبعد هذه الروايات الواضحة لا يقول بحمل الحديث على النفي إلا الغبي الجاهل الذي ليس له إي مشاركة في هذا العلم الشريف. والله أعلم.
ومما تشبثوا به أيضاً:
3 - قوله : «إن الشيطان قد أيس أن يُعبَد في جزيرتكم - جزيرة العرب-» ( )[41].
هكذا ذكره بعضهم( )[42]، وقال آخر( )[43]: قوله : «إن الشيطان قد أيس أن يَعبَده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش( ) [44]بينهم»( )[45].
وقوله فيما رواه ابن مسعود - -: «إن الشيطان قد يئس أن تُعبد الأصنامُ بأرض العرب، ولكن رضي منهم بما دون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات»( )[46].
وجه استدلالهم: (أن الرسول أخبر أن الشيطان قد أيس أن يَعبده المصلون في جزيرة العرب، وفي حديث ابن مسعود: أيس الشيطان أن تُعبد الأصنامُ بأرض العرب)( )[47].
ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
أولاً: أن الأحاديث الصحيحة لا تتناقض بعضها بعضا، بل لابد أن يكون لكل واحدٍ منها محمل غير ما للآخر، فالحديث الذي نحن بصدده يخالف ظاهراً - لدى البعض - الأحاديث الثابتة الصحيحة التي فيها خوف الرسول وتحذيره من وقوع ألوان من الشرك في هذه الأمة، والعلماء قد ذكروا لهذا الحديث عدة احتمالات، فمما قالوا فيه:
1 - إن الشيطان أيس بنفسه لما رأى عز الإسلام في حياة النبي وإقبال القبائل على الدخول في هذا الدين الذي أكرمهم الله به، فلما رأى ذلك يئس من أن يرجعوا إلى دين الشيطان، وأن يَعبدوا الشيطان أي: يتخذوه مطاعاً.
والشيطان - لعنه الله - لا يعلم الغيب، ولا يعلم أنه ستحين فرص يصد الناس بها عن الإسلام والتوحيد، وكانت أول أموره في صرف الناس لعبادته بعد موت النبي ، حيث أطاعه أقوام وقبائل فارتدت عن الإسلام إمّا بمنع الزكاة، أو بإتباع مدعي النبوة، فنشط وكانت له جولة وصولة، ثم كبته الله. فالقول بأن الشرك منتفٍ عن هذه الأمة مخالف للواقع، كما أنه مخالف للفهم الصحيح لنصوص الشرع.
2 - أو يقال: إن الحديث يقول: إن الشيطان أيس أن يُعبد. وظاهر لفظه: أنه أيس مِنْ أن يُعبد هو نفسه، لا مِنْ أن يُعبد غيرُه من المخلوقات كالأنبياء والملائكة والصالحين والأشجار والأحجار، والقبور.
3 - أو يقال: المراد أن الشيطان قد أيس أن يُعبد أو تُعبد الأصنام في بلاد العرب في كل وقت وزمان، فهذا لن يكون إن شاء الله، وقد يشهد لهذا لفظة (أبداً)( ) [48]المذكور في الرواية الأخرى( )[49].
وعلى كل حال: لا يمكن دعوى أنه لن يُعبد غيرُ الله في بلاد العرب في وقت من الأوقات، فإن هذا باطل كاذب بالإجماع والضرورة والنصوص المتواترة.
ومما يتشبث به القبوريون في هذا الباب:
4 - قوله : «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولا يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة، أو يأتي أمر الله تعالى... »( )[50].
وجه استدلالهم: (أن النبي أخبر أن أمر هذه الأمة لا يزال مستقيماً إلى آخر الدهر، ومعلوم أن هذه الأمور التي تُكَفّرون بها، مازالت قديماً ظاهرة ملأت البلاد، فلو كانت هي الأصنام الكبرى، ومن فعل شيئاً من تلك الأفاعيل عابد الأوثان، لم يكن أمر هذه الأمة مستقيماً، بل منعكساً...)( )[51].
يجاب عن هذه الشبهة: بأن هذه الشبهة ناتجة عن قصور باعه في علم الحديث. فإن الأحاديث تأتي بروايات مختلفة بعضها يفسر البعض الآخر، فالذي ذكره جاء بعدة روايات، حتى إنه جاء في «صحيح البخاري» في خمسة مواضع عن معاوية .
وقد جاء في كتاب العلم بلفظ: «ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»( )[52].
وفي كتاب الاعتصام بلفظ: «ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون»( )[53].
وجاء في كتاب المناقب بلفظ: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله»( )[54].
كما جاء في كتاب الاعتصام بلفظ: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون( )[55].
وفي كتاب التوحيد: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ...»( )[56].
والحديث جاء عند مسلم بلفظ: «لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون»( )[57].
والمقصود: أن الروايات المطلقة في بعض الأحاديث تحمل على الروايات المقيدة، فإن من قواعد أصول الفقه حمل المطلق على المقيد إذا اتحد المحل والحكم( )[58]، وهنا هكذا، لهذا قال الحافظ ابن حجر عند شرح الحديث: (أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبداً)( )[59]. ولا شك أن هؤلاء البعض هم المحدثون ومتبعو الآثار لا غيرهم من القبوريين كما نص عليه السلف.
ومما يتشبث به القبوريون في هذه الباب:
5 - عن عائشة قالت: قال النبي : «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» فقالت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] إن ذلك تام، قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم» ( )[60].
وقال النبي :«لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق...حتى يقاتل آخرهم المسيح»( )[61].
وقال النبي : «لن يبرح هذا الدين قائماً عليه عصابة المسلمين حتى تقوم الساعة»( )[62].
وقال رسول الله : «لا يزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك»، فقال عبد الله بن عمرو: «أجل، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسها مس الحرير، لا تترك إنساناً في قلبه مثقال حبةٍ من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة»( )[63].
وجه استدلالهم: (في هذه الأحاديث الصحيحة أبين دلالة على بطلان مذهبكم؛ وهي أن جميع هذه الأحاديث مصرحة بأن الأصنام لا تعبد في هذه الأمة إلا بعد انخرام أنفس جميع المؤمنين آخر الدهر)( )[64].
ويجاب عن هذه الشبهة من عدة أوجهٍ:
أولاً: مراد النبي في هذا الحديث بيان وقت ظهور الشرك بصفة عامة بحيث يطغى على التوحيد ويسيطر على حاملي لواء التوحيد ويستأصلهم، فذكر: أن هذا يحدث في أواخر أيام الدنيا، قبل انعقاد القيامة الكبرى، وبعد خروج الريح القابضة لأنفس جميع المؤمنين حتى لا تبقى هذه الطائفة المنصورة والناجية على ظهر الأرض( )[65]. والذي يدل عليه فهم الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو حيث إنه عقب على قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزال عصابة... الحديث» بقوله: (أجل، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك...) إلخ.
فهذا الحديث إنما يبين التحديد الزمني لفشو الشرك في هذه الأمة حتى لا يبقى في ظهر الأرض إلا مشرك، وليس المراد منه عدم وقوع الشرك في هذه الأمة كما ظنه بعض مدعي العلم والمعرفة، وإلا يكون هذا الفهم مخالفاً للأحاديث الصحيحة الأخرى ومخالفاً للواقع.
وأما استدلاله بهذا الحديث على عدم وقوع الشرك في هذه الأمة، فليس فيه ما يدل عليه، وقد بينا المراد من الحديث، ثم إن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين كما هو معلوم لدى كل واحد من أهل العلم.
ومما يتشبث به القبوريون أيضاً في إثبات شبهتهم:قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]، وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143].
وجه استدلالهم: (أن الأمة ليس فيها من يعمل الكفر، وأنها أمة صالحة كلها - من أولها إلى آخرها - ليس فيها شرك).
ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي: أنهم تركوا من الآيتين ما هو دليل عليهم، وذلك: (أن الله وصف خير أمة أخرجت للناس بثلاث صفاتٍ وهي لأهل الإيمان خاصة، وليس لأهل الكفر والشرك، والنفاق والبدع والفسوق فيها نصب، فقال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، فليس المشركون والمنافقون من خير أمةٍ...بل هم شرار الأمة...) ( )[66].
وأما استدلالهم بقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، فالخطاب للنبي وأصحابه، وهم المعنيون بهذه الأمة، ومن كان مثلهم من أهل الإيمان لحق بهم، وأما الكفار والمشركون والمنافقون فهم أعداء الأمة الوسط في كل زمان ومكان، ولا يمكن أحد أن يزعم أنهم من الأمة الـوسط إلا مثل هذا الجاهـل الـذي يقول: ليس في الأمة كافر ولا مشرك)( )[67].
+++++======+++++++======+++++
الهوامش
( )[1] يُنظر: مقاييس اللغة لابن فارس (3/265).
( )[2] المفردات للراغب الأصفهاني (ص:259) .
( )[3] رواه البخاري في صحيحه كتاب العتق، باب إذا أعتق عبدا بين اثنين(ح2522)، ومسلم في صحيحه كتاب الأيمان باب من أعتق شركا له في عبد(ح1501).
( )[4] يُنظر: تهذيب اللغة للأزهري(10/17)، ولسان العرب (10/449)، وتاج العرس للزبيدي (7/148).
( )[5] لسان العرب لابن منظور(10/449).
( )[6] رواه أحمد في مسنده(ح6597)، والطبراني في المعج الكبير(13/27ح52)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/122)، وقال: «رواه الطبراني بإسنادين، ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح، غير يحيى بن عبد الله المعافري؛ وقد وثقه جماعة، وضعفه غيرهم».
( )[7] لسان العرب لابن منظور(10/450).
( )[8] تاج العروس للزبيدي (27/224) .
( )[9] هو مبارك بن محمد إبراهيمي الميلي من علماء الجزائر، خدم الإسلام، ونصر السنة، وقاوم الفرق الضالة، والخرافات، توفي سنة(1357هـ). يُنظر ترجمته: في مقدمة تحقيق عبد الرحمن محمود لرسالة الشرك ومظاهره(ص:13 وما بعدها)، ومعجم المؤلفين لكحالة(8/175).
( )[10] رسالة الشرك ومظاهره لمبارك الميلي(ص:102-103).
( )[11] معجم ألفاظ العقيدة (ص:227)، وهو جزء من حديث رواه البخاري في صحيحه كتاب التفسير باب قوله تعالى:{فلا تجعلوا لله أندادا} (ح4477)، ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب(ح141).
( )[12] مجموع فتاوى ابن تيمية (13/19).
( ) [13]عقيدة التوحيد لصالح الفوزان (ص:92).
( ) [14]الاستقامة لابن تيمية (1/344).
( ) [15] تيسير العزيز الحميد لسليمان آل الشيخ(ص:91).
( )[16] القول السديد في مقاصد التوحيد لابن سعدي(ص:24).
( )[17] تقوية الإيمان لإسماعيل الدهلوي(ص:54-55).
( ) [18] كشف الأسرار، للخميني، بترجمة البندراني (ص: 49).
( )[19] ينظر: نقولاتهم في هذه المزاعم في جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية للشمس السلفي الأفغاني(1/177، و192-193).
( )[20] رواه أبو داود في سننه، كتاب الفتن، باب ذكر الفتن(ح4252)، وصححه الشيخ الألباني في تعليقه على المشكاة(ح5406).
( ) [21]رواه الترمذي في سننه، في أبواب الفتن، باب ما جاء لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون(ح2219)، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، وصححه الألباني أيضا في صحيح سنن الترمذي(ح2219).
( )[22] رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن(ح3952)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه برقم(3942).
( ) [23]أليات: بفتح الهمزة واللام جمع أَلْيَةٍ، وهي العجيزة للناس وغيرهم، وقيل: ما رَكِبَ العَجز من اللحم والشحم، والجمع أَلَيَات، وأَلاَيا. يُنظر: لسان العرب لابن منظور(1/ 202).
( )[24] رواه البخاري في صحيحه كتاب الفتن باب تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان (ح7116)، ومسلم في صحيحه كتاب الفتن باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة (ح727).
( )[25] ذي الخَلَصَة: هو بيت فيها صنم لدوسٍ يسمى الخَلَصَة. يُنظر: النهاية لابن الأثير(1/ 74).
( )[26] يُنظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لعلي بن سلطان القاري 10/ 173 (ح5518).
( ) [27]نقلت هذه الشبه والرد عليها ملخصا بتصرف من كتاب: الشرك في القديم والحديث تأليف أبي بكر محمد زكريا.
( )[28] البخاري في «الصحيح»: كتاب الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، برقم 1344.
( ) [29]انظر ما قاله سليمان بن عبد الوهاب في «الصواعق الإلهية»: (ص44،45).
( ) [30]الحافظ ابن حجر في «الفتح» (3/211).
( )[31]الحافظ ابن حجر في «الفتح» (6/614).
( ) [32]القصيمي: عبدالله بن علي: «الصراع بين الإسلام والوثنية» (2/118).
( ) [33]مالك في «الموطأ» برقم: 1388، والبيهقي في «السنن الكبرى» (9/208)، ولكنه من مراسيل الزهري ومعلوم أنها ضعيفة.
( ) [34]محمد بن علوي المالكي: «مفاهيم يجب أن تصحح» (ص: ز).
( ) [35]ابن جرجيس في «صلح الإخوان» (ص144)، وانظر ما قاله سليمان بن عبد الوهاب في «الصواعق الإلهية» (ص44،47).
( )[36] هو الإمام مالك بن أنس الأصبحي، المدني، صاحب «الموطأ» والتصانيف المشهورة وصاحب المذهب المشهور، انظر ترجمته فيما ذكره الذهبي في «السير» (8/48)، برقم: 10، والسيوطي في «طبقات الحفاظ» (ص96).
( ) [37]مالك في «الموطأ» برقم: 1387، وهو مرسل: وانظر ما نقله البيهقي في الكبرى (9/208).
( ) [38]أحمد في « المسند» (6/275)، برقم 25148، ورواته ثقات.
( )[39] مسلم في «الصحيح»، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب (3/1388) (1767)، وأحمد في «المسند» برقم: 201، (1/29، 32)، وعبد الرزاق في «المصنف» برقم: 9985 و19365، وأبو داود: 3030، 3031، والترمذي: 1607، والطحاوي في «مشكل الآثار» (4/12)، والبزار برقم: 230.
( ) [40] أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» برقم: 9992، والحميدي في «المسند»: 526، وابن سعد (2/242)، والبخاري برقم: 3053، و3168، و4431، ومسلم: 1637، وأبو داود:3029، والنسائي في الكبري: 5854.
( ) [41]لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث، وإنما ذكره محمد علوي المالكي في «المفاهيم» (ص: ز).
(3) [42]هو محمد علوي المالكي في « مفاهيم يجب أن تصحح » (ص:ز).
( ) [43] سليمان بن عبد الوهاب «الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية» (ص41).
( ) [44]التحريش: هو الإغراء وتهييج البعض على بعض، والمقصود: حملهم على الفتن والحروب. النهاية لابن الأثير(1/368).
( ) [45]مسلم في «الصحيح»: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب: تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قريتاً، برقم 2812.
( )[46] لم أجد من أخرجه عن ابن مسعود، وقد عزاه صاحب «الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية» (ص41) إلى الحاكم في «المستدرك»، وأبي يعلى في « مسنده»، والبيهقي.
( ) [47]سليمان بن عبد الوهاب «الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية» (ص45).
( ) [48]عند الترمذي برقم: 2159، كتاب الفتن، باب: ما جاء دماؤكم وأموالكم عليكم حرام، (4/401). وابن ماجه: برقم 3055. وسندهما صحيح.
( )[49] راجع ما ذكره القصيمي في «الصراع بين الإسلام والوثنية» (2/122-127).
( ) [50]الإمام البخاري في «صحيحه» برقم: 7460، كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ (13/442).
( )[51] سليمان بن عبد الوهاب «الصواعق الإلهية» (ص41).
( ) [52]البخاري في «الصحيح» برقم (71) (1/164) كتاب العلم. باب من يرد الله به خيراً يفقهه.
( ) [53]نفس المصدر: برقم 7312 (13/293)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب: قول النبي : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم أهل العلم».
( ) [54]نفس المصدر: برقم: 3641، (6/632)، كتاب المناقب.
( ) [55]نفس المصدر: برقم 7311، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: قول النبي : «لا تزال طائفة..» .
( ) [56]نفس المصدر: 7460، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ.
( ) [57]مسلم في «الصحيح»: 9121، كتاب الإمارة، باب قوله : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم».
( )[58] انظر ما ذكره ابن قدامة في «روضة الناظر» (2/192).
( )[59] ابن حجر في «الفتح» (1/164)، وقال أيضاً في (1/165): (وقوله: «لن تزال هذه الأمة»، يعني بعض الأمة كما سيجيء مصرحاً به ...).
( )[60] مسلم في «الصحيح»: كتاب الفتن واشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة، برقم: 2907.
( ) [61]أبو داود في «السنن»: برقم 2844، انظر ما ذكره الألباني في «صحيح أبي داود» (2/471).
( ) [62]مسلم في «الصحيح» برقم:1922، (3/1524)، كتاب الإمارة، باب: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين...» الحديث.
( ) [63]نفس المصدر: برقم: 1924، (3/1524)، كتاب الإمارة: باب «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين... ».
( ) [64]سليمان بن عبد الوهاب: «الصواعق الإلهية» (ص50).
( ) [65]انظر فتح الباري لابن حجر (1/164)و(13/294)، و(13/76، 77).
( )[66]«مجموعة الرسائل والمسائل» (2/54، 55) بتصرف.
( )[67] «مجموعة الرسائل والمسائل» (2/57، 61)، وانظر «التوحيد وطروء الشرك على المسلمين» في «الجامع الفريد» (43- 345).
وسبحانك اللهم وبحمدك، اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.