المبتدعة يردون نصوص القرآن والسنة، بحجة أنها لا تفيد العلم.
قال المخالفون للسلف النصوص قسمان: متواتر وآحاد.
والمتواتر وإن كان قطعي السند -كالقرآن الكريم- لكنه غير قطعي الدلالة لأنه من الأدلة اللفظية، والأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، لأنها تحتمل المعاني المتعددة ولا نعلم أيها مراد لله، أو تكون مجازا ولا يراد بها الحقيقة، وبهذا منعوا أن يكون القرآن والأحاديث المتواترة منبع أخذ العقيدة.
وأما الآحاد فلا تفيد العلم لأن ثبوتها ظني، وما كان ظنيا لا تثبت به العقائد.
وهكذا سدوا قلوب الناس من القرآن والسنة، في باب معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته.
ثم سلّموا الناس إلى أمور وهمية وأقوال الملاحدة من الفلاسفة والدهريين وقالوا هذه أمور عقلية والأمور العقلية قطعية الدلالة، فتركوا كلام الله وكلام رسوله، وأخذوا كلام المخلوق من الفلاسفة والملاحدة.
ومن ردّ النصوص المتواترة - قرآنا كان أو أحاديث- بشبهة أنها أدلة لفظية، والأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، لأن اللفظ يحتمل أكثر من معنى، والجزم بأحدها يحتاج إلى يقين يعيّنه وهو العقل، يقال لهم:
1- يلزم من هذه الدعوى بطلان الحال التي عليهما بنو آدم لأنهم يتبايعون ويتناكحون بالألفاظ، وهذا يدل على أن الأدلة اللفظية يفيد اليقين، وإلا كيف يجوز نكاح الفروج، وأكل أموال الغير بما لا يفيد اليقين.
2- ولو صح هذه الدعوى لمَا قام علمٌ من العلوم في بني آدم؛ لأن العلوم( كالحساب والهندسة، والفرائض، والفقه، وغيرها) تتناقل بالألفاظ التي تدعون أنها لا تفيد اليقين.
3- ولو صح هذه الدعوى، لصح أن يقال: إن الله عزّ وجلّ لم يقم الحجة على العباد، إذ نصوص الوحي(القرآنية والنبوية) لفظية وهي لا تفيد اليقين عندكم، وكان إنزال الوحي عبثا -والعياذ بالله-، والله تعالى قد أقام الحجة بالقرآن أتم القيام، وهو منـزه من العبث، فدل أن دعواكم باطلة.
ولكن الحق أن النصوص إذا ثبتت فإنها تفيد العلم ويجب الأخذ بها.
والقرآن الكريم متواتر لفظا معنىً، وأما الأحاديث فإما متواترة لفظا ومعنا كأحاديث مسح على الخفين ونحوها، أو متواترة معنىً كأحاديث الشفاعة و الرؤية والمجيء والنـزول ونحوها. أو أحاديث مستفيضة تلقاها الأمة بالقبول، وهذه الثلاثة تلقاها الأمة بالقبول اعتقادا وعملا لا كلام فيه.
وأما إذا كان الخبر من الآحاد سندا فهو مع ذلك تفيد العلم، ومن أمثلة ذلك وأدلة ما نقول:
• خبر من قام الدليل القطعي على صدقه كخبر الواحد الأحد .
• وخبر من صدقه الرسول كخبر الحبر الواحد الذي قال: إن الله يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع. فضحك الرسول تعجبا وتصديقا له.
• وقد صدق النبي التميم الداري في قوله عن الجساسة والدجال.
• وكانت الصحابة يصدقون بعضهم أخبار أحادهم كحديث تحويل القبلة فتحرفوا إلى الكعبة بمجرد سماع كلام الصحابي الواحد. فضلا أنهم لا يشكون في صحة كلام الأكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وغيرهما، ولم يقل أحد منهم أن خبرك خبر أحد وليس بمتواتر ولا مستفيض بل قبلوا كلامهم في العقائد والعمليات، وقد كانوا يتثبتون في الأخبار ولكنهم ما كانوا يشترطون التواتر أو الاستفاضة.
بل إذا ثبت لديهم أنه صحيح ثابت قبلوه ولم يفرقوا بين الآحاد والمتواتر كما لم يكونوا يفرقوا في القبول في العقائد والعمليات فقبِل الصحابة قول مصعب بن عمير في العقائد والعمليات قبل هجرة النبي إلى المدينة، وقبلوا أحادي أبي هريرة في العقائد، ولم يقل احد منهم أنه ليس بفقيه أو هذا خبر واحد، بل قالوا إنا لنعلم أنه سمعه من الرسول كأنه كان ملازما مع النبي ولم يكن مشغولا بما اشتغل به غيره من البيع والشراء أو الزراعة ونحوها.
ومن يخالف قول وفعل الصحابة في هذا الشأن فقد قام بخرق إجماع الصحابة واتبع سبيل غير المؤمنين وقال بقول لم يقل به أحد من السلف ولا الأئمة المتبوعين.
بل هو قول أعداء الدين من الفلاسفة والملاحدة ليمنع الناس من الأخذ بأحاديث الرسول في العمليات والاعتقادات.
ولذا نص كثير من المصنفين في أصول الفقة بأن أخبار الآحاد يفيد العلم والعمل.
ولكن هنا نقطة يجب التنبيه عليها وهي:
أن الخبر الواحد الصحيح قد يرده البعض لا من حيث أنه خبر الواحد، بل من حيث أنه لم يثبت لديه أنه صحيح، أو زعم أن ذلك منسوخ ونحو ذلك، فهذا لا يدخل فيما نحن فيه لأن الكلام فيمن رد الحديث من حيث أنه خبر الواحد ولو كان صحيحا أو أنه ليس بمنسوخ لكنه خبر الواحد وهو لا يفيد العلم، فهذا مخالف لإجماع الصحابة و أقوال السلف والأئمة المتبوعين.
وأكثر أحاديث البخاري ومسلم من الآحاد وقد تلقى الأمة هذه الأحاديث بالقبول، قولا وعملا واعتقادا، فهي محصلة للعلم المفيد لليقين.
ومن العلماء الذين رد على هذه الشبهة الرديئة أبو المظفر السمعاني -رحمه الله- حيث قال: إن الخبر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورواه الثقاتُ والأئمةُ، وأسندوه خَلَفُهم عن سلفِهم إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتلقّتْـه الأمةُ بالقبول؛ فإنه يوجبُ العلمَ فيما سبيلُه العلمُ.
وهذا عامةً قولُ أهلِ الحديث والمتقنين من القائمين على السنة، وإنما هذا القول الذي يُذكرُ، أن خبرَ الواحدَ لا يفيد العلمَ بحال، ولا بدّ من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به شيء اخترعته القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم منه رد الأخبار، وتلقَّفَهُ منهم بعضُ الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدمٌ ثابتٌ، ولم يقفوا على مقصودِهم من هذا القولِ، ولو أنصف الفِرَق من الأمة؛ لأقرّوا بأن خبر الواحد يوجب العلم، فإنهم تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم، يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد...أهـ.
الأحد 22 مايو 2011, 3:25 am
