الفرع الثالث عشر: تأثر العلماء بعلم الكلام( )[1]والمنطق( )[2].
من أسباب الانحرافات في العقيدة وسيما الانحرافات المتعلقة بتوحيد العبادة، تأثر العلماء وطلاب العلم بعلم الكلام والمنطق. ومن دخل في علم الكلام أو المنطق، زلّت قدمه وكثر انحرافه، لأنه سلك مسلكا مشابها للفلاسفة( )[3]، وتأثر بقواعدهم ومناهجهم.
وتظهر انحرافات المتكلمين( )[4]المتعلقة بتوحيد العبادة فيما يلي:
1-إهمال توحيد العبادة وعدم جعله قسما من أقسام التوحيد، حيث قسّموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام فقالوا: ((التوحيد: هو أن الله واحد لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله( )[5].
فنجد أن التوحيد عندهم: توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال، وهو يقابل عند أهل السنة توحيد الربوبية، مع ملاحظة بعض الفروق- ولم يذكروا توحيد العبادة (توحيد الألوهية) ولذلك لم يهتموا به.
ومن أبرز الأمثلة لإهمالهم توحيد العبادة: أنك لا تجد في كتبهم التي سموها كتب العقائد أو أصول الدين ذكر توحيد العبادة أو توحيد الألوهية -إلا نادرا جدا-، وهو التوحيد الذي شغل الحيز الأكبر من الأدلة في القرآن والسنة، ولأجله قاتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الناس.
2-أن أهل الكلام يجعلون أوّلَ واجبٍ القصدَ إلى النظر( )[6]، وفي هذا الأمر جالوا وصالوا، و أهملوا ما جعله الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أولَّ واجبٍ، وهو توحيد العبادة؛ حيث قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى...))( )[7].
3-أن أهل الكلام والمنطق يُشغلون أنفسهم، ويبذلون جهودهم الكبرى، في إثبات الصانع، والقادر على الاختراع، مع أن إثبات الصانع والخالق، والإقرار به معلوم بالضرورة، ولذلك لم يُنكره المشركون؛ وإنما أنكروا توحيد العبادة، حيث قالوا: • ( )[8].
وعلى توحيد العبادة قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يعصم دماءهم إقرارهم بالصانع والخالق، حتى شهدوا أن لا إله إلا الله, قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماء هم، وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسا بهم على الله))( )[9].
فإهمالهم توحيد العبادة، وإعراضهم عن بيان خطر ما يقابل هذا التوحيد من الشرك في العبادة، مما جعل المسلمين يجهلونه؛ فيقعون فيه، ظنا منهم أن ذلك ليس شركا، وإنما الشرك هو اعتقاد خالق مع الله في إيجاد هذا الكون، لأن المتكلمين يُركّزون على إثبات الوحدانية في الذات، والوحدانية في الأفعال.
4-أن أهل الكلام والمنطق قَلّ نصيبهم من نصوص الوحي –القرآن والسنة- رواية ودراية، فقل نصيبهم في الأخذ بها، فلا يأخذون بها للاستدلال والاعتماد، بل للاعتضاد فقط، ولا يأخذون في العقائد بالنصوص إلا بما تتعلق بأمور الآخرة؛ ولذا قَلَّتْ انحرافاتهم فيها، وكثُرت في غيرها لعدم أخذهم فيها بالوحي.
ومن أمثلة تأثر العلماء بالمنطق والكلام ما يتناقلونه في كتبهم، من عدم الاستدلال في العقائد بأخبار الآحاد، أو أنها تفيد الظن ولا تفيد اليقين بحال( )[10].
الهوامش:
( )[1] علم الكلام: هو الجدل بالعقل في علم العقائد.مجموع فتاوى ابن تيمية1/336 وقال ابن خلدون: هو علم يتضمن الحِجَاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية.يُنظر: مقدمة ابن خلدون ص: 363.وأخطأ من اعتقد أن علمَ الكلام هو علم العقائد.
( ) [2]المنطق: عند الفلاسفة: آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطاء في الفكر. التعريفات للجرجاني ص287.
( )[3]الفلاسفة: هم الذين ينسبون إلى الفلسفة، والفلسفة كلمة يونانية تعني محب الحكمة، وهم يحاولون بالعقل إدراكَ كُنْهِ جميع المبادئ الأولى.ينظر: الملل وانحل للشهرستاني2/59وعقائد الثلاث والسبعين فرقة لأبي محمد اليمني2/745.
( ) [4]المتكلمون أو أهل الكلام: هم الذين يثبتون العقائد الدينية بأدلة عقلية عن طريق الجدل، وقال شيخ الإسلام: هم الذين يتكلمون في الله بما يخالف الكتاب والسنة.درء التعارض 1/178.
( ) [5]مقالات لمفتى محمد فريد ص:11.
( )[6] هداية القاري على صحيح البخاري لمفتي محمد فريد الزروبوي ص:105-106.
( )[7] صحيح البخاري مع الفتح كتاب التوحيد باب ما جاء في دعاء النبي r أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى 13/424 (ح7372).
( ) [8]سورة ص:5.
( ) [9]صحيح البخاري مع الفتح كتاب الإيمان باب قوله تعالى: • 1/103 (ح25).
( )[10] أصول السنة لرد البدعة للشيخ محمد طاهر الفنجفيري ص: 37. والبصائر للمتوسلين بالمقابر للشيخ محمد طاهر ص: (2)، محيلا إلى شرح العقائد للتفتازاني ص: 101.
الموضوع مأخوذ من كتاب موقف الإسلام من الانحرافات المتعلقة بتوحيد العبادة. تأليف أبي سعيد عبد الرزاق بن محمد بشر (ج1 ص:125-127).
الإثنين 23 ديسمبر 2013, 5:17 am